سياسة
استيقظ أهالي قرية كويا في الريف الجنوبي لمدينة درعا صباح الثلاثاء، على ما أصبح يشبه العادة بالنسبة إلى قوات الاحتلال الإسرائيلي، محاولات توغل في ريف درعا متزامنة مع قصف من الأراضي المحتلة، قصف استدعى غضباً شعبياً، خصوصا مع تكرار الاعتداءات عرفاً وقانوناً على سيادة أراضي الدولة السورية الوليدة، كما فتح الباب مرةً أخرى أمام الأسئلة المنطقية، لماذا تستمر إسرائيل في عدوانها رغم رسائل الطمأنة المستمرة؟ ولماذا لمّا نرد؟ وما هيئة الرد المناسب؟
تأبين النظام المخلوع:
حقيقةً، لم تبدأ سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا في الخامس والعشرين من مارس/آذار، بل من باب الصدفة البحتة، فقد كانت أولى الغارات الجوية مع بوادر سقوط دمشق ضمن عملية “ردع العدوان”، حيث استهدف سلاح الجو الإسرائيلي في الثامن من ديسمبر ثلاثة مواقع في العاصمة السورية، بما في ذلك مجمع أمني ومركز أبحاث حكومي يُعتقد أنه كان يُستخدم من قبل إيران لتطوير الصواريخ.
كما أقدم الاحتلال الإسرائيلي في اليوم ذاته على التوغل في جبل الشيخ وعدة مواقع في الجولان السوري المحتل وصولاً إلى محيط سد المنظرة الاستراتيجي قرب حوض اليرموك جنوب محافظة القنيطرة، في خرق واضح لاتفاقية فصل القوات 1974 والتي أعلنت اسرائيل انهيارها بانهيار النظام السابق، تلاها في العاشر من الشهر ذاته قصف للطائرات الإسرائيلية على مستودعات ذخيرة في اللاذقية، ما أدى إلى تدميرها بالكامل.
سلسلة الانتهاكات لم تتوقف بين قصف واغتيال ومحاولات توسع وتمدد، لتصل اليوم ذروتها في محاولة اقتحام قرية كويا في ريف درعا الجنوبي، لترد ثلة من شباب القرية بحمل السلاح لمواجهة الخطر المحدق للاحتلال، فتراجعت قوات الاحتلال، لتقصف القرية بغارات جوية ما أدى إلى استشهاد 6 شبان من القرية. اقتحام اكتفت حتى الآن الدولة السورية باستنكاره عبر بيان أصدرته وزارة الخارجية، وبيان آخر رحبت فيه بالمواقف المنددة، إذاً هل هذا هو الرد الوحيد المتاح؟
خيارات الردع أمام الدولة السورية الجديدة
أمام هذا التصعيد، تبدو خيارات الرد السوري معقدة لكنها ليست معدومة. إذ لربما تدرك القيادة في دمشق أن الانجرار إلى مواجهة عسكرية شاملة في توقيت تحدده تل أبيب يخدم المصالح الإسرائيلية، خاصة في ظل تحديات داخلية كبرى تواجه الدولة السورية الناشئة، من ملف فلول النظام وقوات قسد وصولاً إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية، مضافاً إليها عدم الإعلان عن الحقائب الوزارية للحكومة بعد.
من هنا، تظهر الحاجة إلى استراتيجية ردع متدرجة تقوم على عدة محاور:
الحاضنة الشعبية.. السلاح الأقوى في مواجهة الاحتلال
يبقى العامل الشعبي حجر الزاوية في أي استراتيجية ناجحة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. فترسيخ فكرة وطنية جامعة بين السوريين تُجرّم أي تطبيع أو تعاون مع الاحتلال، وتعتبر أي محاولة انفصال تتم بدعمه خيانة وطنية صريحة، هو المدماك الأول لبناء جبهة داخلية صلبة، ويكمن جوهر هذا الطرح في استعادة مفهوم “العدو الخارجي” كعنصر توحيد داخلي في وجه المشاريع الانفصالية أو محاولات ضرب الاستقرار من الداخل.
على الصعيد العملي، فإن الحفاظ على السلاح الخفيف والمتوسط بأيدي الأهالي في الجنوب -بعيداً عن الأطر الرسمية- سيخلق مقاومة فردية تستنزف الاحتلال وتكبده خسائر بشرية ومادية، ما يُصعّب عليه أي محاولة للتوغل البري ويعزز موقف القيادة السورية في المحافل الدولية.
بيد أنه لن يكون من غير المنطقي الظن بوجود حلول أخرى لدى الدولة السورية متمثلةً برئيسها أحمد الشرع، فالقيادة أظهرت تعاملاً متزناً مع القضايا الشائكة، فبشكل متوازي، وفي ظل انشغال الدنيا بفلول الساحل أنهى اتفاقية تعاون مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، متفرغاً بعدها لإنهاء ملف الساحل بتؤدة.
رسائل طمأنة واعتداء مستمر:
في مقابلة تعود لعام 2016، قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وكان حينها عضوا في الكنيست (البرلمان)، في مقابلة مع قناة تلفزيونية إسرائيلية إن “حدود القدس يجب أن تمتد حتى العاصمة السورية دمشق، وإن على إسرائيل الاستيلاء أيضا على الأردن”، بل يذهب يمينيو الأحزاب الاسرائيلية أبعد من ذلك، ففي خريطة “اسرائيل الكبرى” ، تصل حدود الدولة المزعومة إلى دمشق شرقاً، والمدينة المنورة والقاهرة جنوباً، وتضم الأردن ولبنان بالكامل.
تطفو على سطح نقاشات النخب السورية أحياناً بعض حالات الرمنسة للعلاقة بين الدولة السورية واسرائيل، نقاشات جادة رغم معاينتنا لأعداء المنطقة أجمعين وهزيمتهم. حالات تُعبّر إما عن حالة جهلٍ أو تجاهل مطلق للآمال المتربصة جنوب الحدود السورية، آمالٌ يصعب الإيمان معها بالقدرة على التعايش السلمي بين الدولتين، خصوصاً مع حالة الإجرام المستشرية على قطاع غزة، بعدد شهداء فاق الخمسين ألفا.
في هذا الصدد كتب الصحفي السوري ابن مدينة دير الزور ورد فراتي على منصة X:” من يمنّون أنفسهم بـ”تفاهم” مع الإسرائيليين يجنب سوريا صداماً معهم طمعاً باستقرار وإعمار.. واهمون أو مغيّبون، التفاهم.. السلام.. الاستقرار.. حالات تتحقق بأحد شرطين، إما عدوّ لديه رغبة بشيء مما سلف، وهو ما يستلزم ألا يكون عداؤه لك وجوديّاً، وهؤلاء لا يرون وجودهم معنا ممكناً، أو عدوّ يخشى قوة لديك تردعه إذا اعتدى، فيميل للتهدئة مؤقتاً حتى يفوقك قوة، فينقض عليك، وميزان قوتنا (في سوريا) إلى قوتهم عبث لا تصح معه المقارنة.”
وأضاف فراتي:” لذلك يصبح “التفاهم” مع هؤلاء فخاً يأخذون به ما شاؤوا دون مقابل، هذه ليست دعوة لدخول مواجهة خاسرة، لكنها دعوة للتوقف عن الأمنيات الصبيانية، ولجم الألسن المائعة التي لا يبدو أن 14 عاما من الحرب ضد شياطين الأرض أنضجتها، والجدّ في مراكمة حد أدنى من القوة، والتخطيط سياسيا واقتصاديا وتعبويا لحالة المواجهة القادمة لا محالة”
ماذا يسعنا؟
يبقى التذكير بأنّ “ما لا يسع الشرع قوله، يسعنا”، لم يغادر الشعب السوري من متردمٍ بعد، وكما حملنا السوط على معذبنا نحمله على اسرائيل، فالموقف الشعبي الحازم والعدائي تجاه إسرائيل لا يُضعف القيادة السورية، بل يُقويها، ويمنحها شرعية إضافية في الدفاع عن الأرض والهوية، ويُفشل كل محاولات الالتفاف على إرادة السوريين في تقرير مصيرهم بعيداً عن الابتزاز والوصاية الأجنبية