تأملات

انتظار القصف ووجع الانتظار!

مارس 26, 2025

انتظار القصف ووجع الانتظار!

أن تنتظر قصف منزل بجوارك هو شعور يتجاوز حدود الصبر والتحمل؛ انتظار ثقيل تختلط فيه أصوات الأمل بأصداء الرعب. هذا ما يقع الأن بجواري وتحت سمعي ونظري، لأروي لكم الحكاية: اتصال سريع من رجل المخابرات الإسرائيلية لأحد رجالات المنطقة ليعلن أن البيت المجاور له سيُمحى قريبًا، فتعلق الأنفاس، وتخيم على الحي سحابة من القلق الممزوج بالعجز. فمربع كامل يعيش لحظة الانتظار، لحظة تتلاشى فيها الأمنيات وتغرق في واقع لا يرحم. البيت الذي سيهدم لم يكن مجرد جدران وسقف، بل سنوات من التعب والأمل. الأب الذي جمع ثمن الأرض قرشًا بقرش عمل بأيدٍ متشققة وظهر مُثقل بالهموم، والزوجة التي بخلت على نفسها بزينتها، باعت مصاغ مهرها ليكبر هذا الحلم. كل طوبة في هذا البيت تشهد على حكاية، وكل زاوية تروي ذكرى: ضحكات الأطفال، أمسيات الشتاء الباردة، دفء العائلة الذي طالما حمى الجميع.


الآن، وفي تلك اللحظة القاسية، يتحول الحلم إلى هدفٍ على خارطة القصف، والانتظار ثقيل كأنه عُمرٌ بأكمله. الجيران ينظرون بأعينٍ تترقب الدمار ويتساءلون: “هل سيبقى شيء؟ هل سيظل لهذا البيت أثر بعد دقائق؟”. ومن هناك ومن مكان ليس بالبعيد مني قلب الأم يخفق بقوة، تلمُّ أطفالها حولها كمن يحتضن ما بقي لها من حياة، والأب يحاول جاهدًا رسم القوة على ملامحه، لكنه يعلم جيدًا أن النهاية على الأبواب. وفي زوايا أخرى من الحي، رجل يعض على شفتيه، يلملم ما تبقى من رجولته، ويقول لأطفاله بصوتٍ خافت متماسك: “ما تخافوش ما في شيء”، وهو في داخله يدرك حجم الفاجعة. وفي وسط الحي امرأة عجوز، ضعيفة الحركة، تضع يدها على فمها، تريد أن تصرخ، لكن حياءها من الله يمنعها. تدرك في قرارة نفسها أن لا أحد سيستجيب لصرختها، فتلتجئ بصمتها إلى من لا يغفل ولا ينام.


وها أنا أكتب هذه الكلمات، أرى كل هذا يحدث حولي، أرى الخوف حتى في عيون عائلتي، وزوجتي ام العبد تطلب مني أن أكف عن الكتابة، تخاف أن يكون الاتصال التالي لنا، وكأن الكتابة نفسها قد تجلب القصف. أحاول طمأنتها، لكن داخلي مُثقل بفكرة: “ماذا لو كنا نحن الهدف القادم؟ هل سيكون لدينا الوقت لنغادر قبل أن تتحول أحلامنا إلى ركام؟” إنها لحظات تمتزج فيها الحقيقة بالكابوس، ويصبح الانتظار صاروخًا معلقًا في السماء، لا نعرف متى سيسقط، ولا أين سينفجر. لحظة نختبر فيها هشاشتنا وإنسانيتنا، ونتشبث فيها بالأمل رغم أن كل شيء من حولنا يوحي بالنهاية. هذا هو واقع غزة، واقع يتكرر منذ أجيال حيث يصبح الألم جزءًا من الحياة اليومية، وحيث يُختبر الصبر بأشدّ لحظاته. هنا لا تكون البيوت مجرد أبنية، بل حصونًا لذكريات متجذرة في الأرض، وجدرانًا تحمي الأحلام البسيطة لأناسٍ يريدون فقط العيش بسلام. ففي غزة، يتقاسم الناس الخوف قبل أن يتقاسموا الخبز، يتجاورون في لحظات الرعب كما يتجاورون في أفراحهم القليلة. هنا حين يطرق الخطر الأبواب، لا يقتصر الألم على أصحاب البيت المهدد، بل يلامس كل من عرفهم، كل من عاش معهم لحظات الفرح والحزن. وفي هذه اللحظات، تتشابك الأيدي في صمت، تُرفع الدعوات إلى السماء، يبحث الناس عن الرجاء في عيون بعضهم البعض، ويتشبثون بالإيمان الذي يظل قوتهم الوحيدة في وجه واقع لا يرحم.

نسأل الله أن يجبر كسرنا، وأن يحمي أعراضنا، وأن يلطف بحالنا، وأن يربط على قلوبنا كما ربط على قلب أم موسى حين ألقت فلذة كبدها في اليم، وأن يمنحنا قوة من عنده تعيننا على هذه المحن، وأن يجعل من صبرنا طريقًا.

شارك

مقالات ذات صلة