مجتمع

المشي والصمت بين أمستردام ودمشق

مارس 23, 2025

المشي والصمت بين أمستردام ودمشق

كنتُ أمشي وحيداً، خائفاً هنا في امستردام، في بلاد “الأمان”.

حالة من الهلع تتفجر داخلي، لا أحدَ ممن مررتُ بهم يهتمّ بي في هذه الشوارع الأنيقة، التي أقطعها يومياً.

 

المتمسكون بصحتهم يسمّون ما أقوم به: رياضة المشي، وأنا أسمّيه: “هلع الهروب مني”.

أمشي كل يوم بالطريقة ذاتها، أمشي هرباً مني، هرباً من النهاية، التي تداهمني.

أحلمُ بأن تكون لدي القدرة على التمسك بحركة قدمي كي أمشي متمهلاً، كي أستعيد متعة المشي الدمشقيّ، أسألني: هل أنا ذاتي الذي حفظت شوارعُ دمشق حركة قدميْه؟

تلك الـ دمشق، التي كانت لا تبخل علينا بأسباب إضافية للمشي بطرقاتها: مرة لتوفير أجرة طريق، مرة للمشي مع صبية ننتظر منها أو معها شيئاً ما.

 

نمشي مرات لا لشيء، سوى أن نمشي ونمشي، وفي المشي أرزاقٌ لا يعرفها إلا محبّو دمشق!

صار لدينا مثل جديد: المشي هدية الله يأتي رزقه معه! وحده المشي من يفك ألغاز العيون.

كان لدينا صديق نسميه (أبو المشي)، حين نجوع أو نشتهي طعاماً، يقول بنخوة الواثق: والله ستذهبون معي “اليوم غداكم علي..”.

 

نتردد بمرافقته ونحن نعرف حاله.. لكن إصراره أقوى.. يأخذنا جولة أمام المطاعم وسط دمشق. ولم يخلُ الأمر مرة من “معرفة” له يأكل في مطعم ما، ينتهي الأمر بعد أن يهجم عليه مقبلاً، بيمين مُعظّم: أنت والشباب غداكم علي!

 

كيف لي أن أحدثهم في بلاد الصمت عن شهامة “أبو المشي” وقائمة معارفه التي لا تنتهي، هذا مشهد لا تعبر اللغة عنه، لا بد أن تعيشه وأنت جائع….!

تقول صديقة بعيدة: ربما فات زمان هذا المشهد!

الذين يمشون أمامي أو خلفي هنا، في هذه البلاد الصامتة، يريدون أن لا يستسلموا للسمنة أو هم من هواة مقاومة النهايات.


أداوي نفسي بالمشي سريعاً، حين يستبدّ بي القلق خلف شاشة الكمبيوتر، حيث يفيض رأسي بالأخبار والنعوات، وينطّ المتنمرون من صفحات الفيسبوك ليحيطوا بي، كأنهم هواجس تتبعني، أحرك يدي بسرعة لعلهم يفسحون طريقاً لي كي أهرب منهم إلى المشي.

أمشي كي أتأكد أن لا أحد يعرفني في هذه البلاد، التي لا تريد أن تبني ذاكرة معي، هذه البلاد التي سمّتنا “مواطنين” بعد فوات العمر وضياع الدلالات.

نحن الذين جئنا إلى هذه البلاد وقد خطّ الشيب شعرنا وجدنا التسمية غير مهضومة،

وهي وجدت هضمنا صعباً.


نتعارك يومياً في صراع أقرب إلى معاركة خصمين متناظرين، لا أحد منهما سينتصر على الآخر، وكأنهما يصران على أن يصرفا الكثير من وقتهما بالمُعَاركة، فحسب، معاركة من أجل المعاركة!

قالت لي أمستردام مرة: ما أجمل أطفالكم، وما أسهل هضمهم!

وسمعت طفلاً يشبه ابني، مرةً يقول لأخته، التي كانت تهزّ برأسها موافقة، هاربة من مراقبتي لهم: هذه البلاد جميلة وآمنة، ما أهضَمها، لن نعود إلى هناااااك! كان وجهاهما نديين.

صديقة قديمة أبعدتني عنها الحرب والجغرافيا تقول: ملامح وجهك القديم ضاعت، كأن العمر تقدم بك.

أردّ عليها متمترساً بسرديّة مركزية: ملامح وجهي لم يغيرها الزمن يا امرأةً، كنت فارسَ أحلامِ صداقتها.

 

ملامح وجهي ضيعها انكسار الأحلام، وإعادة تدوير التجارب القديمة، بصفتها سيرة ذاتية، أقدّمها على أبواب بلاد لا تعترف بتاريخي!

 

ملامح وجهي كسرتها آذان لا تستمع، وضيّعتها عيون لا تعترف بي! حيث ضاعت سيرنا الذاتية أول دخولنا تلك البلاد، لاجئين، مكسورين، نقف على باب الألبسة المستعملة وبنوك الطعام.

بائعون كثيرون أشتري منهم كل يوم، لا أحد يحفظ ملامح وجهي، ينكرون أنني مررت بهم البارحة أو قبلها أو سأمرّ غداً.

المحلات هنا لديها زبائن يكفونها عن الاهتمام بي، لا أحد يساعد في اختيار الأنواع أو الترحيب بي، كل شيء مكتوب ومقدَّر بمقدار في هذه البلاد الصامتة، تجلس صبية خلف جهاز المحاسبة، لا تتحدث معك سوى بعبارات ترحيب وتوديع قررتها عليها الشركة، التي تفتتح مئات الفروع في البلاد، وكل المنتجات التي أشتريها لها “كودا” محفوظة في جهاز المحاسبة، لذلك لا مجال للاستفسار عن سعر أو نوع، أو أي طريقة للتواصل بين معتنقي الصمت.

 

اليوم أو غداً، الوجوه لها ذات الملامح وردة الفعل، القطار يمر في الأوقات ذاتها، وعامل البريد كذلك، والعصافير على الأشجار تغرد بالطريقة ذاتها كل يوم.

 

سيارة الإسعاف لها الصوت ذاته، والواق واق ذاته.

 

كثيرون ممن ألتقيهم يكونون مشغولين بموبايلاتهم ويحكون مع أشخاص غائبين، مَن هم هؤلاء الذين يتحدث معهم أؤلاء؟ أيعيشون في عالم آخر؟

هل هؤلاء بشر طبيعيون؟ لماذا يسود الصمت في هذه الأمكنة، لماذا لا يتحدث الناس مع بعضهم في هذه البلاد؟ لماذا يفهمون على بعضهم دون كلام، ولا يتذمرون من الصمت؟ هل لديهم أبجدية عليّ أن أتعلمها وأن أفكّ حروفها؟ ما أصعب تعلم الأبجديات الجديدة إنْ خطّ الشيب شعرك!

 

جربتُ مرات عدة أن أتحدث مع الناس ها هنا، لا أحد ها هنا لديه الوقت كي يبدأ الحديث معك، سألتهم عن عناوين افتراضية، عن رأيهم بما أقتنيه من حاجات، كان أولئك الصامتون اللطفاء يعتذرون : لا أعرف!

أو ليسَ من اختصاصي!

 

حاولتُ لفت نظرهم بأنْ رميتُ جسدي أمامهم، لم يقترب مني أحد، اتصلوا بسيارة الإسعاف، ونقلني المسعفون من جهاز إلى جهاز، مكتفين بتسجيل المعلومات التي وجدوها على هويتي دون أن يكلموني!


***

نجلسُ في صالون البيت، نحن الأربعة، كلٌّ منا يقلب صفحات موبايله، متفاعلاً معها بكل علامات الفرح والانجذاب. أيُّ سر في أولئك الأشخاص المختفين في تلك الشاشات، لنوليهم كل هذا الوقت والرغبة اللانهائية بالتواصل!

 

نبحثُ عن مشترك نحن الأربعة، فلا نجدُ، يسألُ كلٌّ منا: ما الذي يجمعني مع هذا؟

 

قبل أن نفكر بإجابة، ننزلق واحداً تلو الآخر إلى أسرّتنا، وقد حمل كلٌّ منا رفيق دربه بيده.


***

نستيقظ صباحاً، نتفقد الرسائل والصور والفيديوهات القادمة، التي ينتجها آخرون تعاكس ساعات نومهم ساعاتنا، أو يعيشون في جزء آخر من العالم.

***

لا أحد يستجيب لدعوة تناول طعام الإفطار، فالمتعة التي نجدها هنا أعلى بكثير من الأنواع التي تعددها ربة المنزل: اليوم جهزت “كِشْكاً” على طريقة حَبّابتكم! زيت وزعتر! فطاير جبنة! مكدوس جديد!

لم يعد الطعام مشتركاً رئيسياً في هذه البلاد.

يريد الأب أن يستعيد شيئاً من وجود مفقود، فيفصل الانترنت…

يتقاطر أطفال بوجوه لا تشبه وجوههم القديمة على الدرج، وجوه حزينة لائمة، مستسلمة للاستجابة لهذا العقاب، ومستعدة لتناول طعام الإفطار بأقصى سرعة، وتوزيع قبلات باردة على الأم والأب، كي تطوى صفحة العقاب.
***

يجلس الأربعة على طاولة الطعام والصمت خامسهم، يقطع ذلك الصمت الطويل مضغُ الطعام، أو صوت ارتطام سكين أو ملعقة بصحن صامت.

***

صوت الأمعاء في هذه البلاد مسموع، لكنه ليس صوت الجوع، بل صوت قادم من الهدوء والصمت الشديد.

ربما صوت الأمعاء إذا شبعت، وهو صوت آخر آخر، مختلف عن صوت أمعاء جائعة في بلاد بعيدة كانت تسمى وطناً.

تقول حكاية شعبية هاهنا في هذه البلاد الجديدة: إن ملوكها حكموا تلك البلاد لأن لديهم آذاناً مرهفة تجيد الإصغاء إلى أبجدية البطون الجائعة، حتى إن هناك متحفاً في أمستردام لأبجدية الأمعاء. زرتُ المتحف مرة، وحاولت أن أفهم لغته لكنني لم أستطع.

بدأتُ أسأل نفسي: ما حاجتي للكلام؟ الصمت أقل تكلفة، في هذه البلاد التي تعلمك الحسابات الدقيقة.

الكلام يحتاج إلى مستمعين…

سألتُ جارتي: لِمَ لا تستمعون إلى السوريين في هذا العالم؟

قالت بهدوء شديد: الاستماع تكاليفه عالية، لا أحد لديه القدرة في هذه البلاد على دفعها، ارتفاعُ أصواتكم أعلى من قدرتنا علىللطرقاً بعيدة، وتزور مدناً لا تعرف صوتك، ولا تتقن أبجديتك، ستنتظر رسائل ضائعة بين عناوين عدة، ضيّعها ساعي البريد، الذي فقد ذاكرته وقد تشابهت عليه أنواع المغلفات والرسائل!ككك

شارك

مقالات ذات صلة