مقالات سوريا

الشارع يرسم هويّة سوريا المستقبليّة

مارس 23, 2025

الشارع يرسم هويّة سوريا المستقبليّة

عنود العمر 


إن ما فعله النّظام طوال أربعة عشر عاماً كان كفيلاً كما يبدو نظريّاً باقتلاع الثّورة من قلوب أصحابها، وأن يُحلّ محلّها الخوف والخنوع، أن يشوّه الذّاكرة، ويُقلّب المشاعر، وأن يفكّك الأيادي المتشابكة إلى الأبد، وأن يقهرَ كلَّ إرادة.


مع انطلاق الثّورة السّوريّة لعب الشّارع السّوريّ دوراً أساسيّاً في صياغة المطالب وتحديدها، وممارسة حريّة التّعبير الّتي غابت عن المشهد طوال حكم آل الأسد.


أبدى الرّئيس المخلوع في بداية الثّورة رغبة بالحوار، واستعداده لتحقيق المطالب، ولكن مع استمرار حالات القتل والاعتقال، وتعذيب المعتقلين والتّنكيل بجثثهم، بدا أنّ كلّ ما أُعلن عنه من قبل النظام أحلام واهية، وأنّ النّظام أصبح خارج نطاق الثّقة والمصداقيّة بشكل كامل، فتحوّلت مطالب الإصلاح إلى المطالبة بإسقاط النّظام.


وعلى الرُّغم من افتقار الشّارع إلى قيادة سياسيّة أو حتّى دينيّة منظّمة تقود الحراك، استمرّ الشّعب في حراكه، فكان هو القائد، والمحرّك، وأثبت أنّه قادر على صياغة مطالبه وتنظيم تحرّكاته؛ بل وأبدع في ذلك، فكانت الخطابات السياسيّة من الخارج لا ترقى إلى مستوى الحراك الشّعبيّ الدّاخليّ، فخرج من بين المتظاهرين نشطاء وصحفيّون وسياسيّون استطاعوا فيما بعد أن يمثّلوا الثّورة وأن يؤسّسوا تنسيقيّات وتجمّعات ومنصّات صحفيّة تدير الحراك.


مثّل الشّارع النّقطة الأهمّ في دراسة المشهد السّوريّ في الحاضر، وفي المستقبل، فتحليل الحالة المجتمعيّة الموحّدة والمتضامنة تبيّن أنّ هذه الثّورة سوف تستمر، وأنّ كلّ رصاصة تطلق عليها، ستجعلها أقوى وأكثر تماسكاً، في حين كان الهدف إضعافها والقضاء عليها.


أذكر تماماً المرّة الأولى الّتي أطلقت فيها قوّات الأمن الرّصاصَ الحيّ على المتظاهرين في درعا، حينئذ شعرنا أنّ هذه الجموع لن تستمرّ في الخروج، وأنّ النّظام سينجح في إخماد الثّورة، لا سيّما بعد اعتقال الطّفل حمزة الخطيب، وقتله تحت التّعذيب والتنكيل بجثته، ولكنّ الواقع كان معاكسا تماما، فمن لم يخرج قبل اعتقال حمزة خرج بعده، في كلّ المدن والأحياء التي لم تلتحق بركب الثورة.


 في عام 2012 بدأ النّظام حرباً طاحنةً على كلً المدن السورية؛ قصف المدن والأحياء الثائرة، وهجر النّاس، فأحكم سيطرته على غالبية الأراضي السوريّة إلى جانب ميليشيات تابعة لإيران وحزب الله وقوّات روسيّة تتقاسم البلاد.


بدا المجتمع السّوريّ في السّنوات الأخيرة للنّظام هادئا وساكناً وخالياً من أيّ مظهر من مظاهر الثّورة، إلّا أنّ الحقيقة أنّ الشّعب كان يغلي، وحالة الاختناق بلغت الذّروة، وكان أيّ طرح لاحتمالية سقوط النّظام بات ممكنا، يقويه تضرّر حزب الله في لبنان وخسارته أبرز قادته من الصف الأول والثاني بعد حرب غزة، وإمعان إسرائيل في قصف كلّ وجود إيرانيّ في المنطقة.


تحرّرت البلاد في الثامن من ديسمبر لعام ألفين وأربع وعشرين، وصدحت المآذن بالتّكبيرات، وامتلأت الشّوارع لأوّل مرة بعد سنوات، خرج النّاس حتّى قبل أن يسألوا: ما الّذي حدث؟ ومن حرّرنا؟ وكيف ومتى ومن أين لنا؟ فكان للبلاد وجه آخر.


عاد الشّارع كما لم لو كان مازال ثائرا، وكأنّ الجيل القديم أعيد إحياؤه، فكان من بين المتغيّرات الّتي يبدو أنّها ترسم هويّة البلاد في المستقبل، وتعين على فهم الحالة؛ أمران لا بد أن يحضرا في قراءة المشهد السّوريّ:

 

أوّلاً: حالة الشّارع العامّة والخاصّة.

ثانياً: حالة الجماهير بعد الشّهر الأوّل من التّحرير، تحديداً في الأسبوع الأخير من شهر فبراير حتى بداية مارس، أي في خضمّ الأحداث الطّارئة.


أمّا الأوّل: حالة الشّارع الّتي تبدو حالةً عامّة للشّعب ككلّ؛ ولكنّها وفي كلّ زاوية منها حالة خاصّة متفردة ومختلفة، وترسم أبعاداًّ كثيرة من المؤكّد أنّها ستؤثّر في المشهد العامّ مستقبلاً.

فمشاهدات العيان في الميدان السّوريّ عقب التّحرير مختلفةٌ تماماً عمّا يُنشر في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وليست في مجملها حالةً شعبيّة بسيطة؛ بل إنّها أصبحت حالة مركّبة من السّياسة والاقتصاد والقانون.


عدا عن حالة الوعي الّتي تزداد يوماً بعد يوم، فلا أحد يقبل الشّائعات، وقليل جدّاً من يصدّقها، فحديث الباعة والطّلاب والعاملين في مختلف المجالات حديث سياسيّ بامتياز، يكاد يرقى إلى مستويات عالية وربّما زاحم خطابات المثقّفين والسّاسة الخبراء.


أمّا الأمر الثّاني، والأهمّ برأيي: حالة الجماهير في لحظة حدوث أمر طارئ.

ففي الشّهر الأوّل للتّحرير، غلب على الشّارع التّجمعات الجماهيريّة الاحتفاليّة، شعارات وهتافات وأهازيج تعود لسنوات الثّورة الأولى.


أمّا اليوم وبعد مضيّ ثلاثة أشهر على التّحرير، فقد غابت هذه الاحتفالات بشكل كلّيّ تقريباً، وبدأ ما هو أكثر صلة بالواقع، تظاهرات بلا تخطيط مسبق، تستجيب لحدث طارئ، أو مطالب مشروعة، يخرج النّاس ولو في ساعة متأخّرة من الّليل، تصاغ الهتافات سريعاً، وتصبح شعاراً للتّظاهرة، ولعلّ أهمّ حدث في الآونة الأخيرة هو الضّربات الجويّة الّتي نفّذتها طائرات جيش الاحتلال الإسرائيليّ على مناطق في ريف دمشق، ودرعا فأثارت في الشّعب ما بقي فيه من روح الثّورة، فخرج منادياً بالتجنيد دفاعاً عن بلاده.

 

أمّا الحدث المفصليّ محاولة الانقلاب في السّادس من مارس لعام ألفين وخمس وعشرين؛ الحدث التّاريخيّ الأبرز الّذي غيّر وجه البلاد، فلم تعد كما كانت قبله، والّذي استعاد فيه الشّعب روح ثورته كأنّها لم تتوقّف البتّة، وكأنّ الأيادي الّتي تشابكت تتشابك اليوم أقوى وأشدّ رباطاً.


لم ينتظر الشّعب دعوةً من الحكومة للخروج والدّعم، ولا قرارات وتحرّكات لإيقاف هجمات الفلول، خرج بنفسه كما بدأ ثورته بنفسه، هبّ الشّعب نصرةً لأهل السّاحل، وخوفاً من ضياع نصره، ففي كلّ شبر، ومن كلّ زاوية كان هناك شباب ينادون بالتّجنيد، ويعلنون استعدادهم للموت من أجل الوطن، ومن أجل التّحرير الّذي أحيا بهم ما كان ميتاً في الأمس.


وعليه فإنّ الشّعب اليوم يرسم هويّة بلاده بيديه، وبدمه أحياناً، يرسمها كما يحبّ أن تكون، حضارة ووعياً وثقافة وقوّة، وثورةً إن لزم، فقد انفكّت القيود ولن تعود ما دام هذا الشّعب حرّاً.

 

 

 

 

شارك

مقالات ذات صلة