فكر

كيف ترى المذابح كولونيالياً؟ وكيف نحزن كولونيالياً!

مارس 22, 2025

كيف ترى المذابح كولونيالياً؟ وكيف نحزن كولونيالياً!

تقف المذابح المروعة عبر التاريخ شاهدةً على سطوة الإنسان بنفسه، ومجازفته بمخزونه القيمي أمام جاذبية الدماء زمن الحروب. بمعزل عن أي قراءة رجعية للحدث، لا يسع الإنسان إلا الإقرار بوحشية تلك الأفعال ولا أخلاقيتها، إلا أن هذا ليس كل شيء، فعالمنا اليوم فيه من التركيب والتعقيد بما يجعل من الحدث شديد البداهة أخلاقياً ذريعةً لأحط الأفعال السياسية والعسكرية وربما الاستيطانية. 

 

 تعد لحظة الهولوكوست لحظة استثنائية في التاريخ الحديث، ليس فقط لأنها الإبادة الأكثر شهرة والأكثر توثيقاً وتداولاً، بل لأنها تحولت فيما بعد إلى المحرقة ذات الأخلاقية المتعالية على ما عداها من إبادات جماعية وعمليات تطهير عرقي مارسها الغرب في مستعمراته حول العالم. ما جعل من المحرقة النازية استثناءً هما شيئان: أولاً، كونها محرقة أوقعها الأوروبي بالأوروبي، فهنا لا مناص من اتهام الشرق المتخلف مثلاً بتلك البربرية أو اتهامه باستحقاق تلك المحرقة لبربريته. فأراد الغرب بمجموعه تكريس هذه اللحظة وتقديس من ذبحوا بها، ونقشوا لأجلها ذلك المصطلح المعروف بإنكار المحرقة، وجعلوا من اليهودي تابوهاً يحرم المساس به، ولاحقاً يحرم المساس بدولته. ثانياً، تصوّر هذه اللحظة في تاريخ أوروبا على أنها استثناء، فهي لا تمثل قيم التنوير، ولا مُثُل الليبرالية.

 

 يمكن القول إن تصوّير المحرقة على أنها استثناء والاعتذار الضمني لليهود بتسريع قيام دولتهم التي ستلم شتاتهم وتحمي هذا العرق المسكين الذي بالكاد نجا من المحرقة ثم الاعتذار العلني بإغراقهم بالمساعدات لا يمكن أن يقبل على أنه استثناء. بل المحرقة، كما يرى زيجمونت باومان وحنه آرنت، هي جزء أصيل من الحداثة الغربية وامتداد لها. تكمن أهمية إعادة قراءة المحرقة النازية ضمن نموذج الحداثة الغربية في تبديد الظل الأخلاقي للحداثة وما نتج عنها من قيم ليبرالية ونظام عالمي ليبرالي كامل يتسلط على العالم بطهوريته قبل ماله وسلاحه، لألّا تتكرر حالة الاستبراء من المذبحة، وكذلك تكريس المذبحة. يذكر باومان في كتابه الحداثة والهولوكوست الآتي: لقد ولدت الهولوكوست ووقعت في مجتمعنا الغربي العقلاني الحديث، وفي أوج مجد حضارتنا، وفي ذروة إنجازنا الثقافي الإنساني، ولهذا السبب فهي مشكلة من مشكلات المجتمع الغربي والحضارة الغربية والثقافة الغربية.


لم الحديث عن الهولوكوست الآن؟


  طالعتنا في الأيام الماضية أخبار ما حل في الساحل السوري، ثم لحقتها فيديوهات لجرائم وقعت بحق المدنيين. تبعها بعد ذلك سيل من التغريدات والتعليقات والأسباق الصحفية حول ما يجري. ربما يصعب وصف ما حل في تلك الأيام في بضع كلمات، ولكن بالتأكيد كان هناك شيء استثنائي فيما حلّ: تضافر الإعلام الغربي مع مثقفي اليسار واللجان في بعض الدول العربية على ضخ كم هائل من الأخبار الكاذبة المضللة بما يشبه الحرب الإلكترونية، والتي تجرّم الدولة السورية الحديثة، وتتهم الشعب السوري وتحديداً المكون السني العربي منه بالطائفية والتعطش للدماء. ورأينا مثلاً من يتحدث عن فشل الدولة في التعاطي مع ملف السلم الأهلي أو الفلول أو العدالة الانتقالية من أول لحظة، وآخر يتحدث عن لارحمة وعن “جينوسايدية” المكون المذكور لأنه رأى خمساً وعشرين “ريأكشن” ضاحك على منشور ينعى الضحايا المدنيين من الطائفة العلوية (مقابل أربعة آلاف “ريأكشن” حزين). واختلط بين هذا وذاك كثير من المتصيدين في الدماء: فحدث كهذا يمكن استخدامه لتحقيق مكسب سياسي على الخصم، أو تسجيل نقطة عليه.  

         

يشبه هذا التعاطي مع أحداث الساحل التعاطي الكولونيالي مع الهولوكوست، وكأن هذه اللحظة في تاريخ سوريا ظهرت فجأةً من سرداب العدم، بلا أي سياق تاريخي ثقيل، لا يمكن تجاهله لفهم ما حصل ولا يمكن أيضاً استخدامه لتبرير ما حصل. يذكر محمود ممداني في مقدمة كتابه عن الإبادة الجماعية التي حلت بأقلية التوتسي في راوندا أن أحد الأخطاء في تناول تاريخ المجزرة هو تناولها بمعزل عن تاريخها.  هذا التاريخ هو باختصار كالآتي: حكم عائلة مجرمة تسمى بالأسد لسوريا بالحديد والنار مدة أربعٍ وستين عاماً، دِعامتها وعمودها الفقري في حكمها هو طائفتها التي تنتمي إليها. ومن التطويل المخل بمقصد هذا المقال الحديث عن دور الطائفة العضوي والجوهري في بقاء عائلة الأسد في الحكم. في المقابل، كان ثمن الخلاص من هذه العائلة ما يقرب المليون شهيد، مئات آلاف المفقودين، وملايين المهجرين. لو أردنا أن نحزن كولونيالياً، كما يفعل أي مثقف يساري كلاسيكي عادةً مع الهولوكوست، فسنحزن فقط على الأبرياء العلويين الذين قضوا في الأيام الخالية. وسنتبع ذلك بمحاولة لهَلْكَسَتِ (holocaustization) الحدث لتقويض الدولة السورية الناشئة، وشرعنة التدخل الخارجي لحماية الأقليات، وتكريس السردية الأسدية بإرهابية المكون السني وتعطشه للدماء.


وقبل أن يمضي التاريخ ونحتاج لمراجعته والقول إننا أخطأنا في تقييم اللحظة الراهنة، علينا أن نقف لبرهة لنفهم السياق: ثورة ضد النظام المذكور يقودها أساساً ويشكل عصبها المكون السني، مذابح بحقه شملت كل شيء عدا النووي تقريباً، تهليل وتغني بهذه المذابح والبراميل من قُم حتى الناقورة، ثم انتصار لتلك الثورة انتصاراً لا ثأر فيه (وهذا ما تشير له جميع التقارير المحلية والدولية)، ثم تمرد مسلح انفصالي يقوده فلول النظام بعديد يقال أنه بين ال 1500-4000 فرد أدى لمقتل مئات عناصر الأمن والمدنيين، وبدعم استخباراتي إقليمي ودعم إعلامي عالمي، ثم محاولة لصد هذا التمرد صحبها غضب وفزعة شعبية مسلحة لدعم جهود صد هذا التمرد الذي كان مجهول الأبعاد والحجم حينها، صحبتها حالات إعدام ميداني مصورة لمدنيين وأبرياء وعناصر سلمت سلاحها، والتي أحصتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالمئات أيضاً. البحث عن الأجوبة الطائفية للقتل الحاصل ممكن ومشروع، ولكنه ينطوي على اجتزاء وتجاهل وإنكار. أما التركيز على تصوير الحدث على أنه جناية الأغلبية واستبدادها فما هو إلا عدسة الفهم الكولونياليّة التي عادة ما ترى ما تريد أن تجعل منه ذريعة لعمل سياسي قذر في الغالب لا صلة له بحقوق الإنسان، وإلا لكانت حقوق الإنسان ستراعي المذبحة المليونية التي حلّت بمن طالب بحقوقه وحريته.


وهنا يحلو لي الاقتباس مرةً أخرى من الباحث محمود ممداني عندما تساءل عن سبب مشاركة مئات الآلاف من أغلبية الهوتو بمتعلميهم وجهالهم في الإبادة الجماعية، ولكن بشكل مقلوب: لِمَ شارك العلويون-بغالبيتهم العظمى- بمتعلميهم وجهالهم في تثبيت حكم عائلة الأسد، ولِمَ حين حانت الفرصة لأن يصححوا خطأ الماضي بتسليم مجرميهم والإقرار بخطيئة اصطفافهم التاريخي وتنظيم أنفسهم بشكل يسمح بمشاركتهم الفاعلة بتعزيز السلم الأهلي والمرحلة الانتقالية، لِمَ ما زالوا يصرّون على التفكير بالطائفة؟ ولِمَ علينا أن نرى مثقفيهم ينادون “حيّ على الكرامة” على دماء شباب هذا البلد الساهرين على حمايتهم وحفظ أمنهم؟ ولِمَ علينا أن نضطر مراراً وتكراراً صباح مساء للتذكير بأننا لا ندعي أي طهورية أو عصمة، ولكن ندعي أن لدينا مخزوناً أخلاقياً ملؤه الألم لا يسمح لنا بتكرار المذبحة، ولا يسمح لنا بتكريس ما كرّسته الأسدية: دوامة الانتقام والدماء.

شارك

مقالات ذات صلة