سياسة
معتز السيد
إن انتصار الثورة السورية أعاد السؤال مجددا عن شكل نظام الحكم القادم في سوريا الجديدة، وأبرز ما يتداول حاليًا هو نظام اللامركزية. فبين معارض ومؤيد، يبدو أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الساحة قد تدفع باتجاه هذا النظام الذي ربما سيكون حلًا توافقِيًّا لمشكلات الحكم التي عانت منها سوريا لعقود طويلة، على الرغم من طرح البعض أن هذا الحل قد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات ويهدد وحدة الدولة.
طوال عقود، كانت الدولة السورية تدار بنظام مركزي شديد، وجميع القرارات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إدارية، يجب أن تصدر من دمشق، بينما المحافظات الأخرى تتلقى التعليمات وليس لها أي سلطة فعلية في إدارة شؤونها المحلية، على الرغم من القوانين الموجودة مثل قانون الإدارة المحلية الذي كان مجرد حبر على ورق. فكانت جميع القرارات التي تخص المشاريع التنموية أو البنية التحتية أو الاستثمار تحتاج أن تدور طويلاً في أروقة الوزارات المركزية، مما أدى إلى تهميش واضح لبعض المحافظات على حساب محافظات أخرى تم تركيز التنمية والاستثمارات فيها. كما أن جميع التعيينات القيادية مثل المحافظة والبلديات تصدر من المركز، وهي بعيدة عن أي تمثيل حقيقي للمواطنين. كل هذه الأسباب ساهمت في ازدياد حالة الغليان الشعبي وانفجار الثورة السورية لاحقًا.
وبعد سقوط الكثير من المناطق خارج سلطة مركزية الأسد، ظهرت أشكال محلية من السلطة لتعوض غياب الحكومة وتدير شؤون المناطق المحررة، مثل حكومة الإنقاذ في إدلب والمجالس المحلية في الشمال والإدارة الذاتية شرق الفرات، ما جعل فكرة الحكومة اللامركزية فكرة منطقية تساهم في استقرار سوريا مستقبلاً. ولكن لماذا تثير اللامركزية مخاوف البعض في سوريا؟ يرجع هذا التخوف إلى الخلط بين مفهومي اللامركزية والفيدرالية، وأن أي نوع من توزيع السلطات قد يؤدي إلى تفكك البلاد، على الرغم من الفرق الجوهري بين النظامين، حيث إن اللامركزية تبقي القرارات السيادية بيد السلطات في دمشق، بينما الفيدرالية قد تشكل كيانات شبه مستقلة. بالإضافة إلى أن وضع الدولة الحالي، الذي إذا أُعطيت بعض السلطات للمحافظات، ربما يزيد من حالة الانقسام، خاصة مع وجود فصائل مسلحة خارج سلطة وزارة الدفاع حاليًا، مثل الجنوب والشرق. وهناك سبب آخر يتمثل في أن المحافظات السورية متفاوتة بغناها بالثروات الطبيعية كالنفط والغاز والزراعة، أو وجودها على معابر رئيسية، وهذه الأسباب قد تزيد من الفجوة الاقتصادية بين المحافظات السورية.
هل يمكن تطبيق اللامركزية في سوريا؟
للإجابة على هذا التساؤل، يجب الإضاءة على نقطتين رئيسيتين: كيف يمكن تطبيق هذا النظام وما هي إيجابياته؟
من حيث الإدارة المحلية للمرافق العامة والخدمات، يمكن لكل محافظة أن تدير شؤونها الخاصة دون العودة إلى العاصمة، مثل المياه والكهرباء والتعليم والخدمات الصحية، حيث إنها الأقدر على تحديد احتياجاتها الفعلية. كما أن التنمية الاقتصادية وقرارات مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار قد تأخذ وقتًا طويلًا للحصول على الموافقات من الوزارات المركزية، مما يعرقل هذه المشاريع. فمد خط لشبكة الكهرباء في إدلب أو تشييد جسر في دير الزور يمكن تنفيذه بسرعة دون الحاجة لموافقة الحكومة. أما بالنسبة للتمثيل الشعبي، فاعتماد مجالس محلية منتخبة يعطيها دورًا مهمًا في إدارة مناطقها، وتتحمل مسؤولية ميزانيتها وقراراتها، مما يدفع عجلة الإنتاج والتنمية بسرعة بدل انتظار خطة وطنية شاملة لا تخدمها.
أما عن إيجابيات هذا النظام، فتتلخص في عدة نقاط أبرزها: توسيع المشاركة السياسية، فمواطنو الدولة سيشعرون بأنهم جزء من أي قرار يحدد مستقبل منطقتهم، مما يقلل الفجوة بين الحكومة والشعب التي رسخها نظام الأسد البائد. كما أن هذا النظام سيقلل من البيروقراطية وإجراءات الحكومة الطويلة، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار التي تتطلب قرارات سريعة وتوزيع الاستثمارات القادمة بشكل عادل بدل تركيزها في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، مما يحقق تنمية متوازنة تعزز الاستقرار في المجتمع وتخفف من التوتر الناجم عن التهميش وعدم العدالة في توزيع الثروات.
ما هو النموذج الذي يناسب سوريا؟
من بين كل طروحات الحوكمة التي تم تداولها بعد سقوط النظام، يبدو نموذج اللامركزية الإدارية الموسعة الأقرب للتطبيق، حيث يتم منح المحافظات صلاحيات واسعة في إدارة خدماتها ومرافقها العامة وسياساتها التنموية والاستثمارية مع بقاء القرارات السيادية للدولة بيد الحكومة المركزية مثل السياسة الخارجية والقوانين الوطنية وإدارة الجيش والقوات المسلحة وقد اثبتت عدة دول ينظر اليها كنموذج متقدم في أنظمة الحكم فعالية هذا النظام لتحقيق الاستقرار السياسي و الاقتصادي كفرنسا و إيطاليا و لعل أبرز الأنظمة التي طبقت اللامركزية حديثا دافعة عجلة الاقتصاد نحو الأمام البرازيل التي تقوم بلدياتها بدور محوري في رسم سياساتها الاقتصادية و التنموية كما أنها تشرك المواطنين في إعداد الميزانيات و أفضل الطرق للإنفاق من خلال اجتماعات دورية معهم.
و هنا يكمن الدور الحقيقي لمنظمات المجتمع المدني في سوريا فبعد عقود من القمع و الملاحقة و التضييق، يمكن لهذه المؤسسات أن تمارس دوراً جديداً باتجاه بناء الدولة من خلال التوعية السياسية للمواطنين و تدريبهم ليكونوا جزء فعال في المجتمع و إقامة الورشات و الاجتماعات بين مختلف المكونات لرأب الصدع و تعزيز السلم الأهلي بالإضافة الى دور رقابي على المؤسسات لزيادة الشفافية و تعزيز المساءلة.
يبدو أن اللامركزية خطوة مهمة لتجاوز مرحلة حكم النظام البائد وحكومته المركزية الديكتاتورية، وطريق معقول لتعزيز السلم الأهلي والوحدة الوطنية. ولكن ذلك يتطلب وعيًا كبيرًا وتوازنًا في التطبيق، خاصة أن النموذج السوري يمثل حالة فريدة و نجاح التجربة السورية بما يتناسب مع متطلبات الشعب قد يقود البلاد نحو ضفة الأمان، والخروج من عنق الزجاجة، والإسراع في إعادة الإعمار وإنهاء المعاناة السورية. فالوصول إلى صيغة الحكم المثلى ستحدد مستقبل البلاد لعقود قادمة.