تأملات
في عالم متسارع، تسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل حياتنا، بات الاتصال بالروح أحد أكثر الأشياء التي نفتقدها. نعيش في زمن يسير فيه كل شيء بشكل سريع، دون أن نمنح أنفسنا فرصة للتوقف. ضريبة هذه السرعة هي فقدان الهدوء والسكينة، ولكن تأتي العشر الأواخر من رمضان كفرصة ثمينة للعودة إلى الذات، ولاستعادة الاتصال الروحي الذي فُقد في عصر الركض.
يخسر الواحد منا في العشر الأواخر من رمضان إذا مرت عليه هذه الليالي وهو معرض عن الصلاة والقيام، فقد أسرف الإنسان الحديث على نفسه، وحان الوقت لأن يبذل ويجتهد في سبيل رحمة الله ومغفرته.
لا شك أن التكنولوجيا تسهل علينا حياتنا، لكنها في الوقت نفسه تؤثر سلبًا على صحتنا النفسية. لاحظ ارتفاع نسب المشكلات النفسية حول العالم بلا توقف. يبدو أن نمط الحياة الحالي يؤدي إلى انخفاض القدرة على التركيز والتأمل، ويجعل من الصعب على الإنسان الانسحاب من مشاغل الحياة اليومية والتركيز على الجانب الروحي.
لم يعد الإنسان قادرًا على الاستمتاع باللحظات الهادئة أو الانغماس في لحظة عميقة، وهذا يجعلني أتساءل: كيف نعيد الاتصال بالروح ونحن محاطون بهذه السرعة؟ هنا تكمن أهمية العشر الأواخر من رمضان، والتي فيها ليلة القدر، فهي تمنحنا الفرصة للابتعاد عن هذه الضغوطات، لا سيما في أيام زاخرة بالسكينة، بحيث يُمكن للواحد منا أن يخصص وقتًا للعبادة، والدعاء، والتفكر، وبناء علاقة مع الله عز وجل.
العودة إلى الجوهر
لقد سلبت التكنولوجيا منا القدرة على التأمل والتواصل مع أنفسنا. ومن المعروف أن العقول الحديثة مشغولة دائمًا بالمستجدات، أو “الماجريات” كما يسمى الكتاب الشهير، ما يجعلنا نغرق في بحر من المعلومات التي لا تنتهي. قد يعتقد البعض أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تسهم في “الاتصال” بين الناس، ولكنها في الواقع تزيد من المسافة بيننا وبين أنفسنا.
العشر الأواخر تمنحنا فرصة للخروج من هذا العالم المزدحم. في ليالي هذه الأيام المباركة، يمكن للإنسان أن يبتعد عن كل ما هو رقمي، ليغمر نفسه في التأمل العميق والعبادة الخالصة. من خلال صيام اليوم وقيام الليل، يمكننا أن نستعيد شيئًا من هذا الاتصال المفقود. إن التوقف عن الجري وراء الحياة اليومية، والتركيز في الصلاة والدعاء، يُعيد للروح ما فقدته من سلام داخلي، ومن اتصال مع الخالق سبحانه وتعالى.
الضغوط اليومية والتفكير السلبي هما من أكبر التحديات التي نواجهها في عصرنا. فالأعباء التي تقع على عاتق الإنسان قد تؤثر بشكل مباشر على صحته النفسية.
لكن العشر الأواخر توفر فرصة لإعادة شحن الروح. من خلال الدعاء والصلاة وقراءة القرآن، يمكن للإنسان أن يخفف من التوتر ويعيد توازنه النفسي. وفي هذه اللحظات، يتذكر الإنسان فضل هذه الليالي، ويسأل الله أن يجعله من العتقاء من النار.
العشر الأواخر تمنحنا فرصة لالتقاط لحظات مليئة بالسكينة والتدبر، سواء من خلال صلاة الق أو الدعاء أو الذكر، حيث نجد أنفسنا في حالة من السكون النفسي والروحي. هذه اللحظات، التي قد لا نجدها في باقي الأيام، تُعتبر كنزًا في حياة الإنسان المعاصر الذي يعاني في عصر السرعة.
إن تخصيص الوقت للتفرغ لعبادة الله في هذه الأيام يُعتبر بمثابة “استراحة روحية” من مشاغل الحياة. وفي هذا السياق، تُعتبر ليلة القدر، التي قد تكون واحدة من ليالي العشر الأواخر، فرصة استثنائية للتواصل مع الله، وهي لحظة يمكن أن تغير مسار حياتنا في هذه الدنيا وفي الآخرة.
ربما تكون هذه ليلة القدر، فلماذا نفوتها بانشغالات الحاضر؟ إن العشر الأواخر ليست فقط فرصة لإعادة الاتصال بالروح بعيدًا عن ازدحام المشاغل اليومية، بل هي فرصة للمغفرة والرحمة، وفرصة للدعاء المستجاب. أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا من العتقاء من النار، وأن يرزقنا وجميع المسلمين جنات النعيم.