تأملات

عبودية الأحرار

مارس 17, 2025

عبودية الأحرار

منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يبحث عن الحرية، يتوق إلى كسر القيود والانعتاق من كل ما يسلبه إرادته. لكن المفارقة العجيبة أن من يظن نفسه طليقًا قد يكون أكثر الناس عبودية، ومن يراه الآخرون عبدًا قد يكون الأشد حريةً بينهم. فالحرية التي يتغنى بها كثيرون اليوم، ليست سوى وهمٍ يُساق إليه الناس ليظنوا أنهم أسياد مصائرهم، بينما هم في الحقيقة مجرد مسيَّرين وفق أنماط صنعتها أهواؤهم أو فرضتها عليهم قوى لا يدركون وجودها.


الإنسان في عصرنا هذا قد يكون عبدًا للحياة دون أن يدرك، عبدًا للمال الذي يسعى خلفه دون توقف، عبدًا للمنصب الذي يخشى أن يفقده، عبدًا للقبول الاجتماعي الذي يجعله يُجامل ويُنفق ويُظهر خلاف ما يبطن، عبدًا لشهواته التي تسيره كقائد أعمى، أو عبدًا للنجاح بمعاييره الدنيوية ولو كان الثمن أن يسحق إنسانيته في الطريق. كل هذه الأشكال من العبودية تضع الإنسان في قفص، لكنه قفصٌ ذهبيٌ يظنه مساحة مفتوحة، حتى يدرك بعد فوات الأوان أنه كان مكبلاً من الداخل.

ما يزيد الأمر تعقيدًا أن بعض العبوديات مفروضةٌ على الإنسان، كأن يولد في بيئة تفرض عليه نمطًا معينًا، لكنه في كثير من الأحيان يختار بنفسه أن يكون عبدًا، حين يبيع روحه لمغريات الحياة ويجعل المال أو السلطة أو القبول الاجتماعي ميزان نجاحه، فيسقط في فخ لا يرى حدوده إلا عندما يفقد السيطرة على حياته. هذه العبودية هي الأخطر، لأنها لا تُفرض بالقوة، بل تُغرس في العقل والقلب حتى يصبح الإنسان مستمتعًا بأسره، يدافع عن قيوده، ويقاتل من أجل الإبقاء عليها.


على الجانب الآخر، هناك نوعٌ من العبودية يحرر الإنسان ولا يقيده، وهي العبودية لله. هذه العبودية ليست استسلامًا ذليلًا، بل تحريرًا من كل القيود المزيفة. حين يوقن الإنسان أن الله هو السيد الحق، وأن كل ما سواه زائل، تتحطم أمامه الأصنام التي صنعها البشر، ويتلاشى الخوف من الفقر، ويزول القلق من فقدان المكانة، ويصبح الإنسان حرًا حقيقيًا، لأنه لم يعد يرى أي شيء في الدنيا مستحقًا لأن يُعبد أو يُخشى أو يُطاع فوق أمر الله.


في القرآن الكريم إشارة عظيمة إلى هذه العبودية المزيفة التي تستهلك الإنسان، حين قال الله: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ” (الجاثية: 23). فالإنسان الذي يجعل شهواته أو أهواءه أو قيم المجتمع المتغيرة إلهه، يصبح عبدًا دون أن يدرك، يتقلب مع التيارات، يتبع الموضات الفكرية والاجتماعية دون وعي، ويفقد القدرة على اتخاذ قرارات تنبع من بصيرته الحقيقية. بينما العبودية لله وحده تجعل الإنسان ثابتًا، لا تهزه الرياح، لأنه يستند إلى قاعدة صلبة لا تتغير، إلى مصدر قوة لا يضعف، إلى يقينٍ لا تهزمه المتغيرات.


هذه المعادلة بين العبودية والحرية ليست نظرية، بل رأيناها ماثلةً أمام أعيننا في طوفان الأقصى، حيث تحرر أبطال العبور المجيد في السابع من أكتوبر من كل أشكال العبودية التي تكبل الناس. لم يعودوا يخشون الموت، لأن قلوبهم معلقة بالحياة الأبدية. لم يغريهم المال، لأنهم أدركوا أن الغنى الحقيقي هو غنى النفس بالإيمان. لم يكن لديهم هوس بالقبول الاجتماعي، لأنهم يعلمون أن رضا الله فوق رضا البشر. هؤلاء لم يكونوا مجرد مقاتلين، بل كانوا رجالًا أحرارًا، نفضوا عن أرواحهم كل العبوديات الزائفة، فلم تعد ترهبهم الجيوش، ولم تخدعهم المغريات، ولم تثنهم الحسابات المعقدة التي جعلت غيرهم يتردد ألف مرة قبل أن يتخذ قرار المواجهة.


الأمة التي تملأ قلوب أبنائها هذه العقيدة، لا يمكن أن تُستعبد، ولا يمكن أن تخضع. الأمة التي تستمد حريتها من الله، وليس من اتفاقيات القوى الكبرى، لا يمكن أن يُفرض عليها مسارها، لأنها تُدرك أن العزة بيد الله، وليست بيد من يملكون الاقتصاد أو السلاح أو الإعلام. هذه الأمة لا تهزمها العقوبات، ولا تخيفها الجيوش، لأنها لا تستمد شرعيتها من رضا أحد، بل من يقينها بأنها تحمل رسالةً سماويةً لا تخضع لحسابات الدنيا.


أما الأمة التي تعبد الدنيا، فإنها ستظل عبدةً لقرارات غيرها، تابعةً للموضات السياسية، مرتهنةً لاقتصاد الآخرين، لا تملك قرارها لأن قرارها ليس بيدها. هذه الأمة تستهلك ولا تُنتج، تتبع ولا تقود، وتبقى عالقةً في دوامة العبودية الحديثة، حيث يُخيّل لها أنها مستقلة، بينما هي في الحقيقة أشبه بمن يمشي في دائرة مغلقة يظنها طريقًا نحو الحرية.


في النهاية، كل إنسان عبدٌ لشيء، لكن الفرق أن البعض يختار أن يكون عبدًا لما يستحق، والبعض يُستعبد دون أن يشعر. الحرية الحقيقية ليست في التخلص من القيود، بل في معرفة أي القيود تستحق أن تُحمل. العبودية لله هي القيد الوحيد الذي يمنح الإنسان جناحين، وكل ما سواه أغلالٌ وإن بدت بريقًا يخطف الأبصار.

شارك

مقالات ذات صلة