محمد طريفي
يوغسلافيا التي كانت وسوريا التي لم تزل: مسارات الطغيان والانهيار بين المركزية القسرية والتفكك العنيف
لطالما شكّلت الأنظمة السلطوية التي حكمت كيانات متعددة الهويات تحديًا مزدوجًا؛ إذ بدت ظاهريًا ضامنة للاستقرار، لكنها كانت في جوهرها مشاريع هشّة تنهار بمجرد زوال الحاكم أو اهتزاز أسس السيطرة الأمنية. في هذا السياق، تتشابه تجربة جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا وتجربة حافظ الأسد في سوريا بشكل لافت، سواء في أساليب الحكم، إدارة التعدّدية، توظيف الأيديولوجيا، أو حتى في نمط التفكك الذي أعقبهما.
- الدولة كقالب فوقي: التوحيد القسري في مواجهة التناقضات البنيوية
لم تكن يوغسلافيا التيوتية ولا سوريا الأسدية مشاريع طبيعية لدول متجانسة، بل كانت كيانات مصطنعة يديرها نظام سلطوي يتعامل مع الهوية القومية والطائفية كمعضلة يجب ضبطها، وليس كتنوع يمكن استثماره.
في يوغسلافيا، صاغ تيتو هوية وطنية فوق قومية عبر مزيج إداري–عسكري–أيديولوجي يهدف إلى قمع النزعات الاستقلالية لصربيا وكرواتيا والبوسنة وسلوفينيا وغيرها، مستخدمًا شبكة حزبية وأمنية تُخضع الجميع تحت شعار “الوحدة والأخوة”.
أما في سوريا، فقد اعتمد الأسد على أيديولوجيا بعثية شكلية، فيما كان جوهر النظام قائمًا على “العقد الطائفي–الأمني”، حيث تداخلت السلطة مع الطائفة الحاكمة ضمن إطار دولة مركزية احتكرت العنف المشروع وغير المشروع.
في الحالتين، لم تكن الدولة كيانًا نابعًا من اندماج طوعي، بل كانت قائمة على “الضبط بالقوة”، مما جعلها غير قابلة للاستمرار بدون هيمنة مطلقة للحاكم وأجهزته القمعية.
- القائد كرمز للخلاص والبقاء: من هالة تيتو إلى عباءة الأسد
صاغ كل من تيتو والأسد الأب أسطورتهما الخاصة كقادة لا بديل لهم: تيتو كان يُقدَّم كقائد ملهم نجح في توحيد شعوب البلقان بعد الحرب العالمية الثانية، محققًا معجزة اقتصادية نسبية وحافظًا على استقلال بلاده وسط استقطاب الحرب الباردة.
لكن بمجرد موته، تلاشت الهالة الشخصية التي كانت تمسك بالخيوط المتناقضة، وبدأت الجمهوريات في البحث عن هوياتها الخاصة، مما أدى إلى حروب قومية دامية.
حافظ الأسد فرض نفسه كزعيم أوحد، وعمل على تدمير أي إمكانية لوجود نظام سياسي بديل يمكن أن يتعايش بعده. بنى نظامًا قائمًا على الولاءات الأمنية والطائفية، وحين غاب، انتقلت السلطة إلى ابنه، لكن الدولة نفسها دخلت في أزمة بنيوية تراكمت حتى انفجرت في 2011.
- الطوفان بعد الاستقرار الزائف: الانهيار اليوغسلافي والكارثة السورية
ما حدث بعد غياب تيتو كان انهيارًا متسارعًا متعدد المستويات:
- سقوط القناع الأيديولوجي: الاشتراكية لم تكن سوى أداة لضبط الهويات القومية المتصارعة، وما إن تفكك الاتحاد السوفييتي حتى بدأت النزعات القومية بالتمرد، خصوصًا بين الصرب والكروات والبوسنيين.
- تفكك السلطة المركزية: مع غياب القوة القادرة على ضبط الجمهوريات، اندلعت الحروب القومية، ووقعت مجازر مروعة مثل سربرنيتشا.
أما في سوريا، فقد تكررت نفس الديناميكيات ولكن ضمن ظروف مختلفة:
- انفجار العقد الاجتماعي القسري: مع اندلاع الثورة عام 2011، لم يمتلك النظام سوى أدوات القمع العسكري، مما أدى إلى تحوّل الاحتجاجات إلى تمرد مسلح وصراع أهلي.
- تدخل اللاعبين الدوليين والإقليميين: كما تدخل الناتو في البلقان، شهدت سوريا تدخلات من إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، مما حولها إلى ساحة صراعات متشابكة أدت إلى تقسيم فعلي للأراضي بين قوى الأمر الواقع.
- صعود القوى المتطرفة: كما أدى انهيار يوغسلافيا إلى صعود قوميات متعصبة، أدى انهيار سوريا إلى ظهور تنظيمات متشددة (داعش، جبهة النصرة…) كبدائل عن الدولة المركزية.
- بين التفكك النهائي وإعادة التشكل: أي مستقبل لسوريا؟
انتهت يوغسلافيا رسميًا عام 1992، أما سوريا، ورغم عدم انهيارها الكامل، تعيش حالة “الانهيار الزاحف”، حيث لم تعد هناك سلطة مركزية تسيطر على كامل الأراضي، وأصبحت البلاد مقسمة بين مناطق نفوذ دولية وطائفية وإثنية.
السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل ستصل سوريا إلى نقطة التفكك الرسمي كما حدث مع يوغسلافيا، بحيث تولد كيانات مستقلة بحكم الواقع؟ أم أن هناك إمكانية لإعادة إنتاج “دولة مركزية جديدة”، سواء عبر تسوية دولية أو عبر تطورات داخلية؟
ما هو مؤكد أن النماذج القائمة على “الإجبار الأمني” بدلاً من “الاندماج الطوعي” تحمل في جوهرها بذور انهيارها.
يوغسلافيا سقطت عندما انتهى دور الحارس، وسوريا تقف اليوم على حافة المجهول، حيث لا يزال مصيرها معلّقًا بين السيناريو البلقاني وسيناريوهات أخرى لم تتضح بعد.