تأملات

إدمان العبودية!

مارس 12, 2025

إدمان العبودية!

ونحن نستمتع بالشمس الشتوية الدافئة في عمان، العاصمة الأردنية التي شكر السوريون استضافة أهلها الكرام لهم طيلة سنوات تهجيرهم عقب الثورة، تجاذبت أطراف حديث محمل بالعدمية الواقعة لا الفلسفية مع كاتب قصة سوري شهير، كنت أحاول إقناعه بإجراء مقابلة سيرة ذاتية مطولة عن تجربته الأدبية والسجينة بآن، لمشروع متحف المعنى الذي يوثق حكاية السجن السوري طيلة السنوات الخمسين الماضية، ولكنه، وبكل لطافة وود ومباشرة شرح موقفه الرافض للعود إلى الكتابة التي هجرها قبل سنوات جاوزت العشرين، فما بالك بإجراء مقابلات أو المشاركة في مؤتمرات أو حوارات، وذاك الشرح وما تلاه من نقاش استمر لأكثر من ساعة ونصف الساعة، أثار في صدري عشرات الأسئلة والصور والأفكار التي تركتني أعاني أرقاً ليلياً يخالف طبعي واعتيادي، فأنا كالأطفال أنام قبل أن ترحل كلمات تصبحون على خير من فمي، إذ تسارع روحي بالرحيل إلى قريتنا الصغيرة في جبال القلمون، حيث تفتش في حدائق بيتنا وبيت جدي لتسقي ورودهما الذابلة لا من قلة الماء إنما تحت ثقل غياب الأحباب والشوق لهم.


استعار الكاتب قصة قصيرة ليظهر لي من خلالها شعوره العميق بانعدام المعنى في جميع ما فعلناه كسوريين، إن كان ذاك “الطُرح” الجهيض، بحسب تعبيره الذي قصد فيه بشار الأسد، استطاع بكل بساطة ويسر أن يركلنا جميعا بجميع أسمائنا وأدوارنا من كُتاب وكاتبات وفلاسفة ومفكرين ومفكرات ورجالات ونساء وطنين ووطنيات ورجال ونساء دولة تقدمين وحضاريين، استطاع أن يركلنا خارج التاريخ والفاعلية، وبتنا نحمل حسرة الناس علينا كدملة كبيرة متقيحة تكسر ظهرنا وتحنيه، لتذكرنا كلماتهم المواسية بمأساتنا المتمثلة بوجد هذا “اللاشيء” في سدة الحكم، لأكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، وقبلها ينكز صدرنا اليقين بأنه أيضا ورثنا عن أبيه كمزرعة بما فيها من عبيد ومرابعين وعمال وفلاحين. هذه العدمية اختصرها، صديقي الكاتب، الذي أعشق طريقته في معالجة الأفكار بسلاسة القصة القصيرة التي تحفر في القلب والروح قبل الذاكرة، اختصرها بقصة: “ذاك الموظف الذي جاء ليتقدم إلى وظيفة لا تتطلب أي مهارات أو معارف أو خبرات، مجرد صحة جيدة ومثابرة بالعمل. وكانت الوظيفة باختصار نقل تلة من الحجارة بكل هدوء، حجرا حجراً، من النقطة ألف إلى النقطة باء، وعندما سأل طالب العمل عن المرحلة التالية، أخبره مسؤول التوظيف في الشركة بأن عليه أن يعيد تلك الحجارة وبذات الطريقة المتمهلة من النقطة باء إلى النقطة ألف. فسأل عن المرحلة التي تلي، فأعاد عليه الموظف بأن عليه أن يعد الكرة مرة بعد مرة. فاستغرب طالب العمل، وسأل عن الجدوى والفائدة، فأجابه المسؤول بأنه سينال راتبا مجزياً على هذا الفعل، فما شأنه بالمعنى المراد من هذا العمل؟” عند هذا النقطة توقف صديقي الكاتب، وسألني: “أيقبل أحد بالقيام بهذه الوظيفة العدمية؟” 


بعد حين سيعيدنا النقاش إلى ذات القصة وحجارتها. قبل تلك العودة، خضنا في بحر الحكاية السورية بجميع تفاصيلها، وشخصياتها الكثيرة وما جرى لهم وما حل بهم، من صمت أو سجن أو قتل أو موت من قهر وشعور عميق بالذل. وكيف أن المجتمع الدولي استمتع بمراقبة مجزرتنا المفتوحة وعالج نكز ضميره، إن عانى منه، ببعض الكلمات السياسية أو بأحسن الأحوال باجتراح مواقف الخطوط الحمراء ورفض العنف وغيرها من الخرافات التي اشتريناها وأعدنا بيعها لبعضنا بعضاً متأملين بشرعة حقوق الإنسان. وثابرنا على ذاك البيع الرخيص رغم ما أصابنا من ذهول يوم اختنق أولادنا بالسلاح الكيماوي، فجاء السيد الأمريكي وأخذه وأعلن انتصاره على الطغيان، تاركاً البراميل المتفجرة تزين سحب السماء، وتاركاً المقابر الجماعية تنازع حرقة الشمس، مشنوقة بآخر خيوط الأمل المنسوجة من وثائق وقرارات العدالة الدولية. واليوم يطالبنا العالم بأن نكون مثالاً صارخا للعدالة وحماية التعددية، ناسياً أو متناسياً ما جرى للأكثرية وما دفعت من دماء وكأننا جميعا، قلة وكثرة، لسنا إلا سلعة يشتريها السياسيون ويبيعوها في سوق كبير للنخاسة العالمية.


بعد تلك الرحلة النقاشية المريرة والجارحة، أعدت طرح السؤال الذي أرسله إليّ صديقي الكاتب خلال نقاشنا، ولكن بعد أن عدلته: “يا سيدي الكريم هناك من تطوع لتلك الوظيفة، وعمل مجاناً لسنوات بحفر بئر في ماء البحر دون كلل أو ملل، فما وصفه؟ وكيف استطاع أن يقبل اللامعنى؟”. نظر إليّ بعيون تغسلها الدموع الحبيسة، ربما من أثر الشمس الدافئة، وانطلق إلى طلابه الأجانب يعملهم اللغة العربية، وقبل أن يبتعد التفت قائلاً: “متخيل نحن كنا عايشين مع هذول الناس طوال هل السنين”.


ذهب صديقي إلى درسه وبقي رأسي، يعيد صور “المكوعين” الرافضين للحرية، والمنكرين معرفتهم بالمجزرة، والموت تحت التعذيب في صيدنايا وفروع الأسد الكثيرة، والمدافعين عن سيدهم ضمناً وعلناً بوجوه وردود أفعال تشي بانسحاب مخدر العبودية من أجسامهم، فأثروا البحث عنه دون الحرية. أما عقلي، الذي طُبخ تحت الشمس التي اشتدت، فيكرر مقولة جدتي: “في ناس بتشتري حبال مشانقها من حر مالها”.

شارك

مقالات ذات صلة