آراء

ضحايا جلّادون: عن خطورة الانتحال

مارس 12, 2025

ضحايا جلّادون: عن خطورة الانتحال

أعرفُ السقوطَ وجرّبتُه في اختبارٍ لا يحتمل السقوط، فقط لأنني قدّمتُ الثأر على الاعتقاد، والتمستُ لنفسي العذر ابتداءًا في أيّ شيء كضحيّة سابقة، تعاميًا عن جريمة اللحظة، وتشفّيًا في ضحايا اللحظة، وتجنّبًا لمواجهة المجرم بفعله صياغةً وموقفًا حاسمين.

تقديمُ الأسباب على المواقف تبريرٌ لها في مواضع كثيرة، بعيدًا عن صحّة التحليل المفضي إليها من عدمه، والبدء بالتماس الأعذار في موضع الجريمة تمهيدٌ لقبولها والتطبيع معها وربّما الشراكة فيها، أو ممارستها حين تسنح الفرصة أو تتضطرّ المعطيات لها.


المظلوميّة السابقة ليست مطلقة، ولا تمنح أصحابها الحقّ ليرتكبوا ما ارتُكِبَ بحقّهم، ولا تنفي -بالمناسبة- ما سبق وارتكبوه هم قبل تعرّضهم للمظلمة، هذه جريمة وتلك أيضًا، وعينُ الأيديولوجيا عوراء في أفضل حالاتها، وميزانها مائل أحاديّ الكفّة لا يقيمُ عدلاً ولا يُدركُ منه وزن.

مخيفٌ أن تنتحل الضحيّة السابقة نحلة جلّادها، فتسوق مبرراته ذاتها وتستخدم أدوات جريمته وتكذّب الضحايا الجدد وتوزّع الاتهامات، وتبدأ هي بذاتها حلقة “الثورة مهددة، أعداء الوطن، خطر على المجتمع، يجب تطهير الصفّ …..” إلى أن يصبح ثوّار الأمس أسديّو اليوم (لو افترضنا أنّ هؤلاء هم الثوّار، فاعلين أو مبرّرين).


عندي موقف غير إيجابي من الدولة عمومًا، والسلطة مطلقًا، ولعلّ مبرّرات مثل استعراض القوّة وفرض السيادة وبسط السيطرة، تزيدني تمسّكًا بما أنا عليه، إذ لم تأتِ مقدّمةً إلا لشرّ غالبًا، وإذا كانت الطائفيّة منكرة في مقابل احتكار الدولة للعنف، في بناء أيّهما، فماذا عن الدولة الطائفيّة، التي تنفي عنها بعض مقوّمات الدولة أصلاً ؟ ورغم ذلك على الدولة أن تبادر بالتصرّف كدولة قبل أن تطالب الناس باحترامها كدولة أو أن يدخلوا تحت سيطرتها ويتعاطوا مع قوانينها ومؤسساتها.

الانتقام من “دولة الأسد” الطائفيّة، بتغيير الطائفة المهيمنة، جريمة مماثلة لما كانت قائمة في سوريا لعقود فائتة، وهي ليست جريمة بحق سوريا وأهلها فقط، إنّما بحقّ الثورة والضحايا كذلك.
حاول أن تَصدُق نفسك وتجد فارقًا واحدًا بين القومي الذي برّر لبشّار مجازره وادّعى التلفيق والاختلاق والمؤامرات الكونيّة أو أخيه الذي وجد الضحايا يستحقّون مصيرهم لمجرّد منطقة يسكنوها أو طائفةٍ أنجبتهم، وبين إسلامي يقوم بذات الأفعال واستخدم ذات المصطلحات ليبرّر ذات الجرائم -بعيدًا عن رقعة الجغرافيا أو حساب الضحايا- على يد من يناصرهم أو حتى يخالفهم لكنّه يراهم أقربُ له من الكفّار والأغيار وولاد الفرق المارقة الأخرى (بعيدًا عن حقيقة الدوافع والتراكمات التي انبنى عليها العداء، وهو ليس أحاديّ الوجهة على هذه الصورة يقينًا).


وربّما وجب التذكير هنا أنّ المأزقُ الوطني أصلًا، والإنساني غالبًا، يَنبعُ أحدُ فصولِه من التفتيشِ عن أفضليّةٍ ما (مال، سلطة، تدين، وطنية، قوة مسلّحة….) يتمايزُ صاحبَها بها عن بقيةِ أقرانِه، والأفضليةُ الفارغةُ تَطرّفٌ حتميّ، أياً كان مَبعثُها، ولعلّ “انتحالَ المظلومِ نِحلةَ الظَالمِ” بتعبير ابن خلدون، فصلٌ آخر من فصولِ المأزِقِ: أن ترى الجريمةَ التي كنتَ ترفضُ وتقاومُ، سبيلًا وحيدًا للانتصارِ أو مجردِ النجاة، كالمجرمِ الذي طالما حاربْتَ، تتخلى عن الحقِ و العدل لصالحِ القوة؛ فتحاولُ البَطشَ فاعلًا، بعد أن ذُقتَ مرارَتَه مَبطوشًا بِك، غيرَ مبصرٍ لأنّ تقليدَ المُجرمِ لا يُساويكَ، كفردٍ أو جماعةٍ، بِه وحسب، إنما يَهزمُ -بيديك أنتَ- كلَّ مبدأٍ ناديتَ بهِ يومًا (صادقًا أو مدّعيًا).


أصلي أن تأتي سريعًا تلك اللحظة التي لن يكون فيها مستغربًا أن تدين الظلم لذاته لا لهويّة مرتكبه أو ضحيّته، الأسد أبًا وابنًا ونظامًا مجرمين، وكلّ ما ارتكبوه بحقّ الشعب السوري مدانٌ وعليهم أن يحاكموا عليه تحقيقًا للعدالة في لحظةٍ قريبة، كذلك كلّ مجرمٍ في كلّ فصيل أو تيار أو طائفة، وإن بقيَت آمالٌ كهذه مرهونة بما أمكن صياغته لتجاوز أخطار اللحظة تفتيتًا أو تسليمًا لسداد فواتير الدعم والتمويل والتسليح للحلفاء في الداخل والخارج (جماعات أو دول)، لكنّ إقرار القاعدة عدلاً يحفظ لأصحاب الحقوق حقوقهم منطلق أي خطوة للأمام، ابتداءً من تسمية الجريمة والمجرم والضحيّة، دون إنكار أو استخفاف.

شارك

مقالات ذات صلة