آراء
لم يمضِ الكثير من الوقت على سقوط نظام الأسد في سوريا حتى بدأنا نشهد ظهور حالة من الفوضى في تداول الأخبار، خاصة فيما يتعلق بملف المعتقلين. وكان التقرير المصوّر الذي بثته قناة CNN في الثاني عشر من ديسمبر الماضي، والذي يوثق لحظة العثور على معتقل في سجن سري، أحد أكثر التقارير انتشاراً.
تفاصيل التقرير المصوَّر أثارت شكوك الصحفي عبدالسلام الحموي من منصة “تأكد” ودفعته لإجراء تحقيق صحفي عن هذا الشخص المدعو “عادل غربال”، إذ ظهر بصحة جيدة دون آثار تعذيب وبملابس نظيفة بالإضافة لتفاصيل أخرى لا تعكس أو تعزز ادعاءه باعتقاله في زنزانة انفرادية 90 يوماً، حسب ما جاء في التحقيق.
ليتبيّن أن هذا الرجل ليس “عادل غربال” بل “سلامة محمد سلامة”، ضابط في مخابرات النظام، ومسؤول عن عدة حواجز أمنية في حمص، وله تاريخ طويل في السرقة وفرض الأتاوات وتجنيد المخبرين، وفقاً للتحقيق. واتضح أنه سُجن منذ فترة قليلة لا تتجاوز الشهر بسبب خلاف بينه وبين أحد الضباط على نسبة الأرباح من الأموال التي يجمعونها قسراً من المواطنين.
دفعت هذه الأخبار المضللة المنصة إلى إصدار بيان تحذر فيه من خطورة نشر شهادات غير دقيقة دون تحقق، عادّةً تداول محتوى واحد مزور يخاطر بتدمير مسار العدالة وبضياع حقوق المعتقلين والإضرار بالشهادات الحقيقية اللاحقة. وحذرت المنصة من الأخبار المزيّفة المتعلقة باحترام “الأقليات” في سوريا، وعدّتها تهديداً للحقيقة ومصدراً للفوضى.
التحقيقات الأخيرة التي وردت في منصة “تأكد” والمحاولات غير المتوقفة لتفنيد الأخبار الكاذبة، تبرز أهمية وجود صحافة مهنية تتفادى تضليل الرأي العام وتضمن وصول الصورة الحقيقية، خاصة في القضايا الحساسة التي تمس العدالة وحقوق الإنسان.
يعرّف الصحفيان بيل كوفاتش وتوم روزنستيل الصحافة بأنها: “نشاط جمع وتقييم وإنشاء وتقديم الأخبار والمعلومات”، ويرتبط تعريف الصحافة ارتباطاً وثيقاً بمبادئها الأساسية، المصداقية، الدقة، الموضوعية، الاستقلالية، والمسؤولية الاجتماعية. وتعريف هذه المبادئ والقيم يقدم ملخصاً جوهرياً لما تعنيه الصحافة المهنية.
بالنسبة للمصداقية والدقة، يشير الأكاديميون دوماً إلى إن الدقة تشكل الأساس الذي تُبنى عليه مصداقية أي مصدر. فعندما ينقل الصحفي الحدث كما هو، بعد التحقق من صحته ودون أي تحريف أو اجتزاء، يصبح مصدراً موثوقاً في نظر الجمهور.
أما الموضوعية، فهي تعني تجنب الانحياز إلى طرف معين على حساب الآخر في أثناء إعداد الأخبار والمواد الصحفية بمختلف أشكالها. ورغم أن البشر قد لا يكونون محايدين تماماً، إلا أنه يتعين على الصحفي أن يكون واعياً بانحيازاته الشخصية، وأن يعمل على عزلها عن التأثير في عمله، مع توفير مساحة متكافئة لعرض وجهات النظر المختلفة. وكما جاء في كتاب “عناصر الصحافة” فإنّ المحتوى الصحفي هو الذي سيكون موضوعياً في الواقع، وليس الصحفيون.
وأما الاستقلالية، فإنها تعني قدرة الصحفي على العمل بحرية تامة بعيداً عن تأثير جهات معينة أو إغراءات وضغوط. والمسؤولية الاجتماعية تشكّل جوهر مهنة الصحافة، إذ يتعين على الصحفي الالتزام بالمبادئ الأساسية السابقة واحترام كرامة الأفراد وخصوصيتهم، مع تجنب نشر أي محتوى يحض على الكراهية أو التمييز. وتكمن أهمية المسؤولية الاجتماعية في تسليط الضوء على القضايا التي تمس المجتمع وتؤثر على جودة حياته اليومية ومستوى الحريات فيه.
مع دخول العالم العصر الرقمي، أصبح الجميع قادراً على أن يكون شريكاً في صناعة أي خبر ونشره. وقد أدت هذه المساحة إلى ظهور تحديات جديدة أبرزها ظاهرة التضليل وانتشار الأخبار الكاذبة.
توصلت دراسة نشرت في مجلة Science وأجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 2018، إلى أن الأخبار الكاذبة على الإنترنت تنتشر بشكل أسرع بكثير وأوسع نطاقاً من الأخبار الحقيقة. ووجد الباحثون أن احتمال إعادة تغريد الأكاذيب على تويتر أعلى بنسبة 70% من احتمال إعادة تغريد الحقائق. ونفت الدراسة أن يكون سبب انتشار هذه الأخبار ناتجاً عن الخوارزميات، وأكدت أنه يعود لقيام الناس بإعادة تغريد أخبار غير دقيقة. وتفسّر الدراسة هذا السلوك بأنّ الأخبار الكاذبة عادةً تتميز بحداثتها، مما يجعل الناس أكثر ميلاً لمشاركتها.
كما لاحظ الباحثون أنماطاً عاطفية مختلفة في استجابة الناس للأخبار الكاذبة. فقد وجدوا أنهم يستجيبون لها بمزيد من المفاجأة والاشمئزاز، وأنّ المفاجأة التي يسجلونها عندما يرون أخباراً كاذبة تتناسب مع فكرة أن حداثة الأكاذيب قد تكون جزءاً مهماً من انتشارها.
تبرز هذه النتائج البحثية مدى خطورة انتشار الأخبار الكاذبة بسرعة فائقة، مما يزيد من احتمالية نشوء اضطراب في المعلومات لدى الجمهور، وبالتالي الفوضى وزعزعة الاستقرار.
في هذا السياق، تزداد حاجة الجمهور لمتابعة المحتوى المهني الموثوق.
قد يكون التضليل الإعلامي مقصوداً، مدفوعاً بمصالح سياسية أو اقتصادية تخدم الصحفي أو المؤسسة الإعلامية، خاصة في الأنظمة الدكتاتورية التي تعد المحرّك الأساسي لماكينة التضليل الإعلامي. إذ تستخدم هذه الأنظمة مؤسساتها الإعلامية وأفرادها كأداة لتلميع صورتها مع قمع أي صوت معارض قد يظهر في المشهد.
بينما يحدث التضليل غير المقصود عندما يتناقل الأفراد أخباراً غير موثوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون التحقق من المصادر الرسمية. يزداد هذا السلوك بشكل خاص في أوقات الأزمات أو الفترات السياسية الحساسة مثل مرحلة الانتخابات أو الفترات الانتقالية وكذلك خلال الكوارث الطبيعية أو ظهور الأوبئة.
وتتحمل الحكومات ووسائل الإعلام غير المهنية الجزء الأكبر من مسؤولية انتشار هذا السلوك، إذ ساهمت في تدهور الثقة العامة بها لعدم التزامها في تسليط الضوء على القضايا التي تهم المجتمع وتخليها عن معالجة تلك القضايا بشفافيّة. هذا التقاعس وسلب حق الجمهور بمعرفة الحقائق، أدى إلى ابتعاده عنها وتراجع ثقته فيها وبالتالي أصبحت سبباً رئيسياً في تعرضه للأخبار الكاذبة واستهلاكه لها.
إلى جانب الآثار السلبية لطوفان الأخبار الكاذبة، وُلد جانب مشرق يقاوم ذاك الطوفان ويسهم في تعزيز الحقيقة، حيث ظهرت منهجية “تدقيق المعلومات” بوصفها عنصراً فعّال في تقصّي الحقائق وإظهارها. كما تأسست مؤسسات متخصصة بتطبيق هذه المنهجية لضمان صحة المعلومات، مثل الشبكة العربية لمدققي المعلومات ومنصات مثل “تأكد”، “تحقق”، “تفنيد” وغيرهم.
تعرّف الشبكة العربية لمدققي المعلومات منهجية التدقيق بأنها “عملية فحص المعلومات للتحقق من صحتها.” ويستخدم مدققوا المعلومات أدوات متخصصة لتحليل الأخبار والادعاءات، وتقييمها على أنها صحيحة أو خاطئة، من خلال تضمين السياق والمصادر.” تقسم منهجية تدقيق المعلومات إلى قسمين رئيسين: تدقيق المعلومات ما قبل النشر و تدقيق المعلومات بعد النشر.
وتعرّف الشبكة تدقيق ما قبل النشر بأنه “عملية مراجعة المضمون الصحفي بكافة تفاصيله قبل نشره، لضمان دقته.” هذه الممارسة تمثل جزءاً أساسياً من ممارسة الصحافة الجيدة، حيث تعزز ثقافة نشر الأخبار الشفافة، وتسهم في تقليص إمكانية انتشار أخبار كاذبة أو مضللة.
أما تدقيق المعلومات بعد النشر، فتصفه الشبكة نفسها، بأنه “طريقة ضرورية لمكافحة الأخبار الزائفة والمضللة وغير الدقيقة، التي تنتشر في وسائل الإعلام وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويسهم بشكل كبير في توعية الجمهور.”
وإذا كان السبب الأول للتضليل هو المؤسسات غير المستقلة عن سطوة السلطة، فهذا يعيدنا لضرورة المطالبة بوجود أنظمة تحترم حرية الأفراد وتسمح بوجود صحافة مستقلة، بوصفها السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ويوصي بعض الخبراء الحكومات بتأمين طرق الوصول إلى المعلومات الجيدة والبحث فيها بالنسبة للمواطنين. يأتي هذا في إطار مفهوم “الدراية التكنولوجية” الذي تبنته اليونسكو في أوائل الثمانينات، وتعرّفه على أنه: “المهارات التكنولوجية التي تمكّن الأفراد من التنقل في بيئة المعلومات والاتصالات”. وبالتالي يتضح أن هذا المفهوم يركز على أهمية قدرة الأفراد على استخدام الأدوات والتقنيات الحديثة بكفاءة وفعالية للوصول إلى المعرفة والحقائق وفهم العالم.
أما مسؤولية الجمهور، فهي تتعلق بمدى وعيه بخطر سلوك التضليل الغير مقصود. ويمكن تعزيز هذا الوعي من خلال مشروع آخر تبنته اليونسكو أيضاً، وهو “التربية إعلامية”. ويساهم اعتماد هذا المشروع منهجاً تعليمياً في رفع مستوى الوعي لدى الجمهور بطرق التعامل مع الأخبار المضللة أو وسائل الإعلام، من خلال تعزيز قدرته على قراءة المحتوى الإعلامي وتحليله بوعي نقدي، مما يمكّنه من مواجهة التضليل والدعاية، سواء كانت سياسية أو تجارية أو اجتماعية.
في الختام، يمكننا العبور نحو صحافة أكثر مهنية وجمهور أكثر وعياً من خلال تبني حلول ترتكز على ثلاثة أعمدة رئيسية: استقلال المؤسسات الإعلامية، تحدي التضليل من خلال الالتزام بالمعايير المهنية، وتعزيز الثقافة الإعلامية لدى الجمهور. ويتطلب ذلك من الصحفيين الاستفادة من منهجية “تدقيق المعلومات”،كمهارة أساسية في العمل الصحفي في العصر الرقمي.
ومن خلال هذه الجهود المتكاملة، يمكننا بناء بيئة إعلامية أكثر موثوقية وشفافية، تعزز من قدرة الجمهور على التمييز بين الحقائق والأخبار المضللة.