تأملات

السَّكِينَة (جيش الله العظيم)

فبراير 21, 2025

السَّكِينَة (جيش الله العظيم)

عن السَّكِينَة وما سرّها؟ وكيف تتجلى في روح المؤمن وجسده؟

 

عن البشر بشكل عامٍ، تجد أناساً قد عصرتهم المصائب عصراً لكنهم كالجبال الرواسي أمامها، بينما تجد آخرين لم يتعرضوا لصدمات كبيرة لكنهم في حال اكتئاب دائم وأمراض نفسية كبيرة. والحقيقة أنه على قدر إيمانك يكون مددك من السكينة (جيش الله العظيم).

أستطيع أن أقول بأن السَكينة هي معجزة من معجزات الله، وهي تثبيت إلهي عظيم عكس الانهيار والعدائية، لذلك الذين لم يستمدوا من الله مدد السكينة العالي، هم في حالة عدم اتزان غالباً، يمكن لكلمة واحدة أنْ تثير بهم تصرفات مجنونة.

 

وإذا أردت استعراض السكينة نبوياً فإنني لا أجد أعظم من موقف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين آذاه أهل الطائف ونزفت قدماه الشريفتان، ورغم ذلك رفض صلى الله عليه وسلم عرض ملك الجبال أن يطبق عليهم الجبلين، وقال بسكينته: “بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا”، ولم يعاملهم بانتقامه بل عاملهم بالسكينة المطلقة، فالذي تجري على قلبه مجريات السكينة، هو مؤمن لا يتكدر صفوه من علائق الدنيا، ولا يتأثر بتصرفات البشر الطارئة بإذن الله على أحواله لتنقيته وتزكيته، وهو يعلم أن الأحوال تتبدل ولا عسر يبقى، وفي أجمل ما قاله النبيّ عليه الصلاة والسلام في مقام السكينة: ” إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ” أن تكون في معية الله يعني أن تكون في سكينته، لكن الجميل هنا أن الله عز وجل ألحق تعبير السكينة ب(وأيده بجنود لم تروها)، يعني أنّ السكينة معها مدد لجنود الله، بمعنى أن المؤمن الذي تتنزل عليه السكينة كأنه يحاط بجنود كثيرين من الملائكة تأييداً ومساندةً لذلك يتعجب أحياناً الناظر لأحوال الأنبياء والصالحين تنهالُ عليهم الخطوب وهم في حال سكينة ورضا، لأنّه المدد والتأييد الإلهي.

 

جعلني هذا الأمر أتتبع الآيات التي وردت فيها كلمة السكينة فذهلت أنّ أغلب الآيات التي ذكرت فيها مفردة السكينة يعقبها جنود الله “ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها” يعني أستطيع أن أقول بأنّ السكينة جيش مؤيد أيها الناس، جيش لا نراه ويرانا، وهذا ما يفسر جمال وجلال سيدتي زينب عليها السلام حين قالت بعد استشهاد أخيها وأولادها وسبعين من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، قالت بسكينة العظماء تخاطب الله عز وجل ( ما رأيتُ إلا جميلاً)، وكيف لا ترى ذلك وقد أنزل الله سكينته عليها فرأت حقائق الأشياء، والسكينة ليست مكتسبة، بمعنى أنها ليست دورةً تدريبية وخطوات تتعلمها، بل وهبية، أي كن مع الله عزوجل يهبك سكينته.

 

وفي موضع آخر جاءت مفردة السكينة يعقبها الفتح، إذا أراد الله عز وجلّ أن يهب فتحه لعباده أنزل عليهم السكينة قبله، “فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا”.

 

وفي أجمل ما لفت نظري الاستخدام القرآني لكلمة (التابوت)، في إشارة مذهلة إلى الموت، ولكنّ أشار الله عز وجل له بالسكينة، في حين أن التابوت يذكّرنا دائماً بالموت ويثير لدينا مشاعر القلق والخوف، إلا أنّ الله عز وجل قال في قرآنه الكريم “وقال لهم نبيهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم” فجاءت كلمة التابوت مقرونة بالسكينة، في إشارة تأملية واضحة إلى أنَّ الموت بين معنيين:

معنى ظاهري وهو الفقدان

معنى باطني وهو المراد أي السكينة (في حال أنّ العبد عرف ربه في دنياه).

 

يتعزز المعنى الأخير في آية أخرى لاستخدام مفردة التابوت “أن اقذفيه في التّابوت فاقذفيه في اليمّ فليلقه اليم بالساحل” يأتي الإيحاء الإلهي لسيدتنا أم موسى عليه السلام بأن تلقي طفلها في التابوت إذ يرمز التابوت هنا إلى النجاة وبمعنى آخر إلى السكينة، أي ليحيا طفلك ضعيه في التابوت، وفي هذا مفارقة على صعيد الفهم السطحي إذ كان يمكن أن يستخدم مفردة أخرى بدلاً من التابوت، قارب مثلاً ولكنه قال تابوت، وكل كلمة في القرآن هي في موضعها تماماً وكل حرف في القرآن هو سر من أسرار الإعجاز الإلهي.

 

لذلك نسأل الله رب السكينة أن ينزل علينا السكينة، ويهبنا أسرارها وأمدادها وفهم جمال معانيها وأن يسكب أنوار سكينته في قلوبنا ظاهرا باطنا فنتحقق بمقام الرضا والقرب.

شارك

مقالات ذات صلة