آراء
وقفت أمام مشهد قائد حركة حماس يحيى السنوار وهو يَستشهد ببيت أمير الشعراء أحمد شوقي:
ولِلْحُرِّيَّةِ الحمراءِ بابٌ
بِكُلِّ يدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
للحرية الحمراء المصبوغة بدم الفداء بابٌ يَدُق عليه أبناء الوطن بأيديهم المضرجة أي المصبوغة بالدم، أخذت أفكر كيف عاش هذا البيت على مرور السنوات يذكره رجل مقبل على الموت، موليًا شطر الآخرة، وقد كتب أحمد شوقي هذا البيت في قصيدته التي يذكر فيها قصف الفرنسيين دمشق جوًّا وبرًّا في أكتوبر /تشرين الأول عام 1925، وقد أُقيمت في القاهرة ندوة لاستنكار هذا العمل، وتُلِيَت فيها القصائد، وتسابقت الصحف على نشرها، فاشترت جريدة السياسة امتياز السبق لنشر هذه القصيدة بأربعين جنيهًا، وضُمّ هذا المال إلى إعانة منكوبي الثورة السورية، وكان مطلعها:
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ
ودَمْعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
تأملت كيف يبقى بيت الشعر الصادق، المضمَّخ بمسك السنين، رايةً ثوريةً ودفعةً روحية ونبعًا يلجأ إليه المجاهد لشحذ الهمة وبَثّ الطاقة في النفس في الحروب العوان، وقد قيل، كما روى أمير البيان شكيب أرسلان، إن هذه القصيدة التي لم يقُل فيها شوقي إلا الحقّ كانت سببًا في غضب فرنسا عليه، وفي حرمانه من الحصول على إذن بزيارة المغرب.
تَأمَّل معي كيف يُلهِم الشعر أهل السياسة والقتال، فقد قرأت ذات مرة أن رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح كان يحب التمثُّل بأبيات للملك الضليل امْرِئِ القَيْس، وقد استذكرها في رحلته الأخيرة قبل مقتله، خصوصًا قوله:
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا
وَأَيقَنَ أَنَّا لاحِقانَ بِقَيصَرا
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما
نُحاوِلُ مُلكًا أَو نَموتَ فَنُعذَرَا
انتبهت للطاقة الأدبية الضخمة التي يحملها بيت الشعر، يعمل بيت الشعر في النفس كحَبَّة دواءٍ وشعارِ حكمةٍ وتلخيصٍ بليغ لمواقف الحياة، وكدتُ أميل إلى عباس محمود العقاد حينما رجَّح ميزان الشعر على الرواية.
فقد كتب العقاد في كتاب “في بيتي” بعضًا من آرائه، متصوِّرًا أنه يُجرِي حوارًا مع نفسه، وقد سألَتْه نفسُه عن سبب قلة الروايات في مكتبته، فقال لها إن الشعر أنفس من الرواية بكثير، و«محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة».
واستند العقاد بطريقته الصارمة إلى مقياس هو «الأداة مقابل المحصول»، كلما قلَّتِ الأداةُ وزاد المحصول، ارتفعت طبقةُ الفن والأدب، وكلما تضخَّمَتِ الأداةُ وقَلَّ المحصول، مال إلى النزول والإسفاف، وما أكثر الأداة وأقلّ المحصول في القصص والروايات! إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيتٌ كهذا البيت:
وتلفَّتت عيني فمُذْ بعُدَتْ
عنِّي الطلولُ تَلفَّتَ القلبُ
أو هذا البيت:
كأنَّ فؤادي في مخالِبِ طائر ٍ
إذا ذُكِرَت ليلى يَشُدّ به قَبْضَا
لكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، كأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه: إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة!”.
والخرنوب هو الخَرُّوب بطريقة العقاد.
انتهت مرافعة العقاد في هدم فن الرواية ومدح الشعر، وقول العقاد يعني أن فن الرواية قنطار من الكلمات مقابل درهم حلاوة من الروعة الأدبية، كدت أميل إلى رأي العقاد وأصفّق لقديمنا من الشعر وأنا أرى بيت الشعر يحلق عبر العصور والسنين وينزل في موضعه على أفواه الأبطال والشجعان والمقاومين.
مفاتيح شخصية شوقي بعينَي عبد العزيز البشري
كان بين يدَيَّ بالصدفة كتاب جميل عنوانه “النضار.. الآثار الباقية لجاحظ العصر عبد العزيز البشري”، دراسة وتحقيق د.عبد الرحمن قائد، كنت أتصفح الكتاب واتنقَّل بين صفحاته الممتعة، وأقف عند ترجمات هذا العصر بقلم الشيخ عبد العزيز البشري لرجال مثل حافظ إبراهيم وجورجي زيدان وقاسم أمين وإخوان من هذا الطراز، لكني وقفت أمام تشريح البشري لشخصية أمير الشعراء أحمد شوقي، ورأيت فيها بعض مفاتيح هذا الشاعر الخالد.
أولًا – أثر النعمة والغنى في شوقي: يقول الشيخ عبد العزيز البشري: “وبعدُ، فقد تقلب أحمد شوقي من أول نشأته في النعمة، وأصاب ما شاء من مُتع الحياة، ولو قُدّر لخَلقٍ من الناس أن يُدرِكوا كلَّ مُنَاهم، وأن يُبَلَّغوا الحياة مدى أشَرِها، لكان شوقي أحد هؤلاء! وإذ قد عرفت هذا فلا يتعاظمنَّك ما ترى من شيوع الترف في شعره، فلا تقع من تشبيهاته في غير المآسي إلا على كل فاخر ثمين”.
ثانيًا – تأثير الطبقة الاجتماعية في شوقي: يكمل البشري في موضع آخر بقوله: “كذلك من العوامل التي لها أثر واضح في شعر شوقي: نشأته في بيت الملك، ومقامه في بطانة الأمراء وظِهارتهم، ودخوله في أدقّ الأسباب السياسية في مصر، سواء ما اتصل منها بالدولة المحتلة (إنجلترا)، أو بالدولة المتبوعة يومئذ (تركيا). وفي الغاية لا تنسَ أثر سياحاته الكثيرة في بلاد الغرب، وفي بلاد الشرق القريب، ومخالطته لأصناف الخلق، ووقوفه على طباعهم وأخلاقهم ومأثور عاداتهم، وما تَجلَّى من صور الطبيعة في بلادهم، وغير ذلك مما لا يتهيأ لكثير من الشعراء”.
ثالثًا – شوقي شاعر مفتون بفَنِّه: ينبِّهنا البشري إلى أن أحمد شوقي مفتنّ بأجمع معاني الكلمة، يَكْلَفُ بفَنِّه إلى حد الافتتان، بل إنه لا يكاد يرَى الرجل كل الرجل يتمثل إلا في الشاعر، ولا يرى للحياة في جميع صورها غاية إلا قرض الشعر. انظر كيف يقول على لسان إحدى من ينسب ويتغزل بهن:
جاذَبَتْنيِ ثوبِي العَصِيَّ، وقالتْ:
أنتمُ الناسُ أيُّها الشعراءُ
ولقد كان إلى هذا شديد التمكُّن من نفسه حتى ما يرى في الدنيا شاعرًا يباريه أو يتعلق بغباره كما يذكر البشري.
كتب أحمد شوقي في مقدمة الشوقيات عام 1900: “رفعت إلى الخديوي السابق [محمد توفيق] قصيدتي التي مطلعها: خدعوها بقولهم حسناء / والغواني يغرهن الثناء، والتي غزلها في أول الديوان، وكانت المدائح الخديوية تنشر يومئذ في الجريدة الرسمية وكان يحررها يومئذ أستاذي الشيخ عبد الكريم سلمان فدُفعت القصيدة إليه، وطُلِبَ منه أن يسقط الغزل وينشر المدح فود الشيخ لو أسقط المديح ونشر الغزل. ثم كانت النتيجة أن القصيدة برمتها لم تنشر”.
رابعًا: يوضح الشيخ عبد العزيز البشري في مقالة له أن شوقي رجل موهوب إلى أبعد الحدود، تتهتَّك لشاعريته الحُجُب، وتتراءى له مكنوناتُ المعاني في أطواء الغيوب! حتى لقد تتخطى شاعريته مداركه، وقد تُصيبُ في بعض الأحيان من عوالي المعاني ما لا يمتدٌّ إليه ذهنه”، وهنا موضع الاستشهاد كيف بقيت جواهر شوقي لأنها من عوالي المعاني.
خامسًا: ثقافة شوقي العالية كما يذكر الشيخ البشري: فهو شديد الإكباب على قراءة الكتب عمومًا، وكتب الأدب خصوصًا. ومن أعظم مَن عُني بقراءة دواوينهم واستظهار أشعارهم وانتهاج طرائقهم ومباراتهم في مَنازِعِهم، أبو نواس، وأبو تمام، والبحتري، والمتنبي.
ثم يوضح الشيخ البشري أن هذه القراءة ليس معناها أن شوقي مستعير منهم مقلِّد لهم، “بل الغرض أنه استظهر أشعارهم، فاتصلت بذوقه، وجَرَت في عروقه، وخالطت طبعه، فنضحت على قلمه”.
حاولت أن أزور معك فنَّ أمير الشعراء ونفكِّر كيف عاش شعره كل هذه السنوات، حتى يكون لسان حال رجل قلب الموازين ولم يتهيب الموت.
في الختام يقول الشيخ عبد العزيز البشري: “أحمد شوقي لَمْ يَمُتْ، ومِثْلُ شَوْقي لا يموت أبدًا، بل إنه لَيزداد حياة على تَطاوُل الأجيال، هذا شوقي حَيٌّ أقوى الحياة في بيانه القويّ، وسيظَلّ هذا البيان المَشْرَعَ العذْبَ النَّمِيرَ، يَنْهَلُ منه بنو العروبة ما قُدِّرَتْ للعربية في هذه الدنيا حياة”. واستشهاد الأبطال بشعر شوقي يدلّ على خلود حكمته رحمه الله على لسان كل مقاوم.