Blog
المدينة الزرقاء – مزجٌ أول
ملايين البشر؛ تخطوا المئة وفوقهم عشرة، يبدأون صباحهم جريا في جري، ويعودون آخر النهار جريا في جري، وما بينهما ألفُ سعي يسعوْنه ولم يعد يكفي. منذ عشر سنوات أُخذوا على حين غرة، باغتهم المراوغ.. أزال المردة ثم سحبهم كالنداهة رويدا رويدا.. فصل النخبة عن القاعدة كالملح عن الماء. بنعومة ساحر يعرف مساحيقه جيدا، ويعرف خفة اليد. كان مباغتا ومكيرا. أحاطهم بسيرك من اللاعبين واعدا بالاستقرار والرغد. أدخل السيف في الصندوق على رأس الفتاة، فخرج ببعض النخبة، ثم مرة وأخري. صفّاهم وفصلهم عن روافعهم. لكن الاعتياد قاتل.. عشر سنوات بحيلة واحدة تقتل أمهر السحرة.
الوهج – واقعٌ أول
في المقال الأول تساءلت عما إذا كانت مصر بوضعها مستحيل الاستدامة على شفير انفجار حقيقي لا تغيب إرهاصاته عن الرائي، لا الناظر حتى أو الممعن في النظر، كاللفح الكامن تراه متوهجا في عيون المارة في المواصلات، بين المصفوفين في المصالح الحكومية والتائهين في شعاب المشافي، في طوابير الخبز والتأمين والمعاشات والراكضين على محاور الموت أو في قطاراته والصابرين أمام معاهد الأورام وغسل الكُلى. فوق رؤوسهم تتلألأ مدينةٌ أخرى لم تعد لهم؛ بيعا وشراءً على ورق لم يُوقّعوا عليه ولم يُستشاروا ولم يُخطروا حتى. مدينةٌ زرقاءُ لؤلؤيةٌ غلفت التاريخ الكثيف وملايين الشخوص النابضةَ والراقدة بورق الحائط البراق. إعلاناتٌ ابتلعت المدينة، وختمت على الجميع؛ البشر والحجر والأثر وما بقي من الشجر:” مُباع”.
الساحر ضيق الخيال- مزجٌ ثانٍ
بالتكرار وتحت أضواء المدينة الزرقاء الزجاجية الواهمة، فقد قدرته على الإبهار فانكشفت حِيَلَهُ ببطء شديد مؤلم كخلع الكتف، حتى أفلتت من يديه الصنعةُ كالماء من السطل. حريقٌ شبّ في قميصه المصنوع من ورق الجرائد الرخيصة والوعود الكاذبة، حتى أتي على الحي بكل ما فيه؛ الأخضر واليابس. سيحترق الساحر دون حُرُزِه وتعاويذه، لكن عباءته البالية، ستأخذ عيال الناس وأشجار العائلة، ستُخفي أقفال الحبس وقصصَ الجدات. الجبانات استُحلت. الرُقاد رفعته العضّاماتُ لعيون الخلق الوقحةِ والأسنانِ الصفراء والباصقينَ على جدار التاريخ البعيد وبوابة المتولّي. سيفنى، وفي رقبته رسائلُ الولاة وسر القلعة. ولا أحد سيدوم، مهما استطار سواد سحره.
الغلاف الاجتماعي للانتفاضة – واقعٌ ثانٍ
انتقالا من ألم الكتابة الذهنية عن عشرية هي الأسوأ على الإطلاق في تاريخ مصر الحديثة، أتحول لدراسة موضوعية للبيئة أو الغلاف أو السياق الذين أفضوا بالتفاعلات وطاقة الغليان إلى حُممٍ لم تعد حتى متصلة اتصالا عضويا؛ بل تموج بقوة دفعٍ إن انفجرت لن ترى فيها شبيهك ولا رفيقك، بل سترى إلى جانبك كل ما طمست سابقا واختلفتَ معه وعنه، حتى لربما سعيت لإسقاطه وتجاوزه. سيقابلك كل من تمنى لك الحبس اللانهائي والسجن مدى الحياة، كل من طلبت أو طلب لك الفرم بلا رحمة، كل هؤلاء الذين قضوا في سجون السلطة؛ سترى عيون ووجوه المنتقمين من أبناء كل من تركنا أسرانا ومواجهاتنا العقيمة لنعترض على عجل وبسطحية لنسكن ضمائرنا المثخنة على اجتثاثهم بلا قانون ولا إنسانية، حين باركوا استباحتنا وشمتوا في جنازاتنا وباركوها. الجميع في البوتقة ولا خيار.
لو انفجرت هذه البوتقة الجديدة فل نكون حتى قادرين على الالتفات.. هذه المرة سيكون الانفجار كيل طافح، مرار كدماء الصبار بكل ما بداخله وحوله وفوق القدرة البشرية عن احتمال نقطة زائدة واحدة تضاف لكوب دم امتلأ ل“تمه”.
الروافع الشعبية – وقعٌ ثالث
الروافع الشعبية في حال وقع الانفجار أو الانتفاضة الشعبية الاجتماعية تلقائيا يلزمها أولا ما يسمى” فن الحضور“ وهو قائم ولم تنجح السلطة هذه ولا من قبلها بكل وحشيتهم في اجتثاثها، لأنها تمتد أصليا وأفقيا في الأرض الأم وهي الجذور بلا منازع، وحين ينفض المدعون والمرتزقة وجمع الظواهر الصوتية والعاطلون وعيون الباشا وكاذبو الزفة والمتغنجات تعود الجذور للاستواء والمدد. الحضور الثابت للجماهير الحقيقية الأصيلة العاملة، مفهوم خلص إليه أكثر من باحث اجتماعي أو مدقق في الاجتماع السياسي. من الباحثين الجادين في السياق الاجتماعي للانتفاضات العربية وبطبيعة الحال الحراك في إيران خاصة الطلابي في ٢٠٠٨ وقبل عامين الأستاذ آصف بيات.
أتوافق عموما مع آصف بيات في رؤاه البنيوية لما أظنه في بعض” النخب“ التي اعتقدت في وقت ما أن ”الروافع الشعبية“ أو الفئات المسحوقة اجتماعيا وفكريا ”دون“ أولويات الثورة أو أن لها مطالب فئوية ليست في أولويات نخبة رفيعة الثقافة السياسية والوعي، تريد خلع نظام قديم متجذر أطاحت برأسه فقط، والتنبه لدولة عميقة قوية مترصدة، وكتابة دستور، وحل مشكلات أصيلة من أجلها قامت الثورة، ولكل ذلك وجاهة أصيلة جدا في الحقيقة. الكارثة أن تنحية الحركة العمالية صاحبة الفضل الكثير على حراك ما قبل الثورة يناير في ٢٠٠٤ و٢٠٠٦ و٢٠٠٨ ثم ٢٠١١، سحب الرافعة العمالية الشعبية القوية من تحت أقدام النخبة المثقفة وفتحت الباب للخطر.
صفقات المخابرات – مزج الزيت بالماء
الخطر كمن في أن الدولة العميقة استغلت هذه اللحظة فورا، فقررت اللعب على الرائق وترقص رقصتها المفضلة وحرفتها بأستاذية مشهود لها:
١- فزاعة الطبقة الوسطى، سحبت جهاز الأمن وأجنحته تماما من المجتمع لأطول فترة ممكنة، وأظن أنها فعلت” أكثر من ذلك“. كان الهدف تمهيد وقت طويل يُفقد الرأي العام غير المؤدلج الثقة في النخبة السياسية للثورة. وقد حدث طبعا.
٢- منح المخابرات ”القوة الحاكمة للدولة العميقة“ وقتا مناسبا لعقد صفقات تُحدث ثغرة تنقض فيها الدولة العميقة على قلب النخبة. وكانت بدلَ الثغرة ثغرتان:
أ. ثغرةٌ هشة وقليلة التجربة كثيرها مثالي وقليلها فاسد (المثقفون الشباب الوجه الحقيقي للثورة)
ب. الوجه المحنك في عقد الصفقات، الذي بالفعل عزز الثورة ”في الوقت الذي رآه مناسبا“. تلقف الخيط مباشرة فهو أكثر الأطراف حنكة في التفاوض والتوازنات وأكثرهم ترتيبا وأقلهم رغبة في الإصلاح الشامل غير المؤدلج. الإسلام السياسي (بين الراغب في الحكم والمكتفي حتى الآن بدور المتحالف في الخفاء)؛ والأيام أثبتت بالحرف صحة ما أكتب.
اتفق مع آصف بيات أيضا خصوصا في كتابه” الحياة كسياسة“ أن للحركات الثورية أو الانتفاضات العفوية غير المرتب لها ,اتفق تماما أن لكل انتفاضة خصوصية ولا يمكن استنساخ إحداها من الأخرى سابقا أو لاحقا. التراكمات الثقافية والحضارية فضلا عن الإرث النقي أو المركب يضفي مختلَطات للمعادلة الفائرة داخل البوتقة والغلاف، بالتأكيد تجعلها تجربة فريدة في ذاتها تشابه هذه أو تلك في تفصيلة أو تفاصيل، لكنها لا تتماثل أبدا إلا مع نفسها.
الفارق بين انفجار هذه الدولة ودولة ما قبل ٢٥ يناير
مرة أخرى من المهم قراءة تجربة لا أظن أن السلطة الحالية أو النظام الحالي يستطيع حتى لو أراد استنساخه، لأنه لم يؤسس لدولة بالمفهوم الذي نجح فيه مبارك وسط إخفاقات كارثية أخرى لا مجال لها. وهو نظامٌ كانت فيه مؤسسات يرأسها” رجال دولة“ كان بعضهم شديد الحرفية في عمله. كما كان نظام مبارك قبل سنواته الواهية الأخيرة أو لربما حتى سنوات عبارة السلام 2000 وكارثة زلزال 1992 يتعكز على المشاركة المدنية في العمل الإغاثي والطبي وبعض ركائز المجتمع المدني (معظمها من الإسلام السياسي) لتخفيف بعض من حمل الدولة.
الشاهد أن محاولات اجتثاث منظمات أخرى في المجال العام لم يكن دورها خدميا وإنما سياسي أو بحثي أو حقوقي كمركز ” ابن خلدون“ أو ”هشام مبارك“ والتعامل بوحشية مع الانتفاضات الطلابية ؛ انتفاضة الأقصى 2000 وغزو العراق 2003 وقبلها مظاهرات الجامعات 2002 ردا على التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، كل ذلك مهد لحراك أعمق صب كله في عام 2004؛ استنادا إلى حوار لم يُقْصِ أحدا تقريبا إلى برنامج عمل لتغيير سياسي جذري.
جنين ثورة يناير المجيدة ٢٠١١
ألفت عناية حضراتكم إلى تطورين مهمين للغاية كانا مفصليين في عام ٢٠٠٤ وما تلاها:
(1) تأججت إضرابات العمال في معاقلها التاريخية خصوصا في المحلة الكبرى في تجليات الحراك العمالي المصري والتي يستميت النظام الحالي على وأدها ولم ولن ينجح.
(2) بالتتابع تأسست حركة كفاية نواة ثورة سياسية حقيقية. من ثم التحمت بشكل شبه متلامس ومتزامن مع النخبة الشابة التي كانت لا تزال تَلزمها قيادة وقاعدة الشعبية، بمعنى لا تزال بحاجة لحشد جماهير.
كوابيس الانتفاضة مزج أخير
الآن أعود بكم لهذه اللحظة في الوضع المعكوس. بسبب الفقر التي يمسك بتلابيب الطبقات من المتوسطة حتى الكادحة وشديدة العوز (الجماهير الحاشدة) الحاضرة والخائفة بل المرعوبة بعد عشرية رأت فيها الفقر والفساد والقمع في أسوأ صور ثلاثتهم، وتخاف أن حراكها مهما كان ملحا لن يغير شيئا وستتعرض لخطر رهيب لو أقدمت على الانتفاض. ثم من يقودهم؟ إذ إن معظم من تنطبق عليهم صفات القائد السياسي للنخبة والقواعد الشعبية معا، ويصلح لإدارة الطرفين في السجون؟
”نهاية عهد الحاكم المقدس
تَكَوُن الضمير المواطني“
هو عنوان الجزء السادس من كتاب المفكريْن بهجت النادي وعادل رفعت أو كما اختارا لنفسيهما اسما واحدا ”محمود حسين“ لكتابهما الباهر ”صحوة المحكومين في مصر الحديثة من رعايا إلى مواطنين 1798-2011. فكرة ارتباط جيلٍ قاد عن جدارة الحركةَ الطلابية المصرية في السبعينيات ونحن هذه الأيام وفي يناير نستذكر دروس ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ ”انتفاضة الخبز“ بتأريخ الحركة الطلابية ظلما لما قبلها بداية من حقبة السبعينيات ربما هو ما جعلني أكتب مستهل مقالي في الجزء الأول بهذه الافتتاحية الدسمة عن حقبة الستينيات.
في حوار مسجل مع الدكتور خالد فهمي كدت أصفق لكثافة الحركة الطلابية لا في القضية الوطنية المصرية فقط منذ الاحتلال الفرنسي لمصر، وإنما في حركات تحتاج عِتالةً وجهدا دون تنصيبٍ ولا تمجيدٍ لهذا الجهد، مثل مشروعات إنارة الريف ومحو الأمية وتثقيف السيدات والتصدي للتزويج القسري للبنات والختان وغيرها كثيرا. من أكثر ما أعجبت به فعلا في كتاب مفكريْن هما ممن تنطبق عليهما كلمةُ النخبة فعلا بأوصافها الجامعة في الوعي والكتابة بأكثر من لغة وهندسة خطوات كثيرة وتدوين أمور مهمة جدا ربما كثيرون مثلي شعروا بارتياح أنها بالفعل مدونة ومحفوظة منذ الحملة الفرنسية وحتى ما بعد ثورة يناير. فَهُمَا نخبويانِ بالمعنى الحميد للفظ.
الخُلاصة.. البقاء للأصلح
أختلف فقط مع آصف بيات في تفصيلة تناولناها كانت تخص صورة ”فن الحضور هذه“ إذ يرى الباحث شديد الدقة ربما لا يتفوق عليه في ذلك إلا باحثان: الدكتور خالد فهمي والأستاذ هشام جعفر. على كلٍ يذهب آصف بيات إلى أن حركات الإسلام السياسي أو الحركات الإسلامية نمت على اضمحلال الحركات القومية، وهذا من وجهة نظري غير صحيح كليا. بشكل موضوعي أرى أن النقاش المفتعل بين القومية العربية أو الإسلام السياسي أو اليسارية أو الوطنية المصرية وهي حركات أصيلة أيضا انحصرت في بوتقة القضية المصرية إبان الاستعمار الانجليزي بشكل ثابت احتفظت كل بمبادئها وحصل اندماجها دون انسحاق أو امتزاج إياهن بالأخرى.
هذا تحديدا ما لا يمكنني أن أقرأه اليوم. في هذه المرة لأ أعرف لو جاء الانفجار وليد الصراع الطبقي حقيقية بعد كل الارتطامات والخيانات واهتزاز الأيادي والمواقف والاندفاع. أكم من اندفاعٍ وأكم من خطيئة ألقت بالجميع في التهلكة. وليس أدل على ذلك مما نحن فيه الآن. كل طرف يلوم على زميله وكلنا أخطأنا. صحيح الخائن ليس كالمخطيء، لكننا لو أردنا النجاة يتعين مهما كرهنا أن نخطو خطوة للأمام. قبل أن تغرقنا حمم الغليان المستحق لمن استُبعدوا آنفا ولاحقا.
لا نجاة من دون الروافع الشعبية، والحواضن الأصيلة، الشخوص الذين يمكنهم فقط بعد -الديستوبيا المرعبة- أن تتكيء عليهم النخبة الحقيقية الوازنة والمخلصة، التي يتسق لها تأطير الانتفاضة، لتصبح عن جد ثورة مستحقة.