ما بين طرفة عين وأخرى تتأرجح مواقف الطبقة السياسية في لبنان يمينًا ويسارًا، ويصعب مع زوبعة التقدم والتراجع والثبات والتردد، التكهن بمآلات الأمور في بلد لا يخشى فيه أهل السياسة رقابة أو محاسبة، بل لم يحدث أن عرفوها أصلا أو أقاموا وزنًا لعقوبة معنوية قد يوقعها عليهم ما يسمى في بلدان العالم الرأي العام.
استقر اللبنانيون على قاعدة مفادها أن وطنهم الصغير أقل ما يقال فيه أنه بلد الأعاجيب والألاعيب، واليوميات السياسية النشطة، ودهاليز الزعامات والمرجعيات والقيادات، وأن الظاهر فيه غير الباطن، وأن للباطن ربما بواطن، وفي المحصلة فإن اتفاق الدول وتقاطع مصالحها على أرضك أيها اللبناني، يعني أولا أن تحفظ رأسك وأن تسير بما تشتهي سفن من حولك وما تفرضه رياح الشرق والغرب.
على هذا المبدأ انطلقت عجلة انتخاب رئيس للجمهورية مؤخرا وبشكل متسارع حسمت الأصوات لصالح ابن المؤسسة العسكرية جوزيف عون بعد أن دار دولاب الحظ في الخارج وحدث التوافق السحري، ووصلت كلمة السر بالإيحاء أو بالإيماء وابتلع الأقطاب مواقفهم السابقة وتصريحاتهم وتهديداتهم وكل خطبهم، عن مجافاة الديموقراطية للعسكر وعن الامتناع عن تكرار التجارب البائسة وغيرها.
صار قائد الجيش فجأة، في منزلة المخلّص والمنقذ من الكارثة وبطل الوحدة الوطنية والأمل الأخير لبقاء الدولة، مسكين هو الرئيس الجديد، ليس بشخصه ولا بقدراته ولا بالمؤسسة التي يتفرّغ عن قيادتها ليتولى المنصب الرفيع، بل لأنه مع وصوله الى القصر لم يجد من الجمهورية إلا أطلالاً تكاد تنعى من بناها، فعلى امتداد عقود خلت تناوب اللبنانيون بشخص قياداتهم على تهشيم الدولة أو ما كان تبقى منها بمؤسساتها المختلفة، السياسية والإدارية، المالية والاقتصادية و الأمنية، وبالكاد أمكن استنقاذ الجيش ربما لأن الجميع كان بحاجة إليه. اللبنانيون جميعاً الآن في خانة الكفر بواقعهم السياسي المهترئ إذ أن مواطنتهم ذهبت مع الريح وهم يعيشون كما في كل يوم الخوف من الغد، الخوف من الآخر والخوف على الوطن وعلى الأبناء وعلى ومشروع الدولة، لذلك وعلى النحو المعتاد تعلقت الآمال بموفد أمريكي يملك مفاتيح حل المعضلات كما هو حال كثير من أشقائنا العرب، ووصل الطائر الميمون إلينا بالرئيس المرتجى وعلى جبينه الدمغة الباهرة:” صنع في الولايات المتحدة”.
رئيس تزدحم على مكتبه الملفات وتتشابك، وما تلته سطور خطاب القسم ليست إلا تعهدات ونمط من الوعود المستهلكة والمنتظرة التي لم تجد طريقها يوما إلى أرض الواقع واستقرت في أدراج من تعاقبوا على قصر الرئاسة، قضايا فساد وقضاء وأمن ومال واقتصاد وكهرباء وسلاح غير شرعي واستراتيجية دفاعية إلى ملف النزوح و العلاقات مع سوريا والعرب وغيرها من استحقاقات متعثرة وشياطين تكمن وماتزال في التفاصيل، كل ذلك في بلد خرج للتو من حرب إسرائيلية شرسة أتت فيه على البشر والحجر بل أفرزت انقسامًا حادا على خيارات وطنية واستراتيجية كبرى، وإذا كان نضوج الطبخة السياسية الخارجية قد أتى برئيس على طبق دولي جاهز إلا أن للداخل طبقه التقليدي الساخن بالصراعات والنزاعات الشائكة المتراكمة والمعقدة.
لا مجال للمكابرة والهرب من مواجهة الواقع، لا بد من الاعتراف بأن لبنان كان ولايزال قضية دولية يُقرَّر له ولا يُقرِّر، بمعزل عن رغبة أبنائه المنقسمين، ومعركة الرئاسة كانت واحدة من معارك النظام الدولي الجديد الذي يفرض على اللبنانيين ان يجلسوا في بيوتهم هادئين وينتظروا تطبيق القرارات الدولية وما ستفرزه الإدارة الأمريكية الجديدة، يؤكد ذلك ولا ينفيه ان تظهر الدول كل هذا الاهتمام بموضوع رئاسة الجمهورية، بمعزل عن سائر المخاطر والمشكلات والهموم الفعلية للبنانيين، والتي تشمل مختلف وجوه حياتهم من أخطار الفتنة الى ما يقارب افلاس الدولة الغارقة تحت اثقال الدين العام، وأزمات الصحة والتعليم وأموال المودعين وضمان الشيخوخة وسائر الخدمات.
مما لا شك فيه الآن أن بيروت ستبقى تعج بالموفدين وحملة الرسائل والضيوف والسفراء والمهنئين والواعظين والآمرين والناهين، كما لو كان لبنان قضية كونية احتشدت فصولها في أصغر مساحة شاغلة الكبار ودوائر القرار، كيف لا وبلاد الأرز على حدود فلسطين محتلة وعلى حدود عدو متربص يسيل لعابه، بانتظار بلد منزوع السلاح ومجردٍ من الحياة، وهي رهانات ومساعي أُسقطت مرارًا وتكرارًا في بقعة جغرافية طالما لفظت الاحتلال والهيمنة، ودافعت عن مدنها وقراها وأفشلت مخططات الخارج ومؤامراته، أما اليوم فيرى قسم كبير من اللبنانيين أنه ما على الرئيس الجديد إلا قطع شوط هذا الاستحقاق بأقل الخسائر الممكنة عله يصل الى شيء من العدالة والديمقراطية والعروبة والقومية بعيدا عن حقول الألغام وعبث التدخلات الخارجية والاملاءات ومؤامرات الصالونات السياسية التي طالما أنهكت البلاد والعباد، مع الأخذ بعين الاعتبار الصلاحيات المقيدة لرئيس الجمهورية والتي غالبا لا تخوله تطبيق الكثير مما جاء في خطاب القسم من أحلام ووعود، وهو بحسب النظام السياسي اللبناني من صلاحيات الحكومة الجديدة برئيسها العتيد، وهي بلا شك أسئلة ستطرق باب الأخير عاجلًا أم آجلًا، أما من هو ومن سيكشف عن هويته وماذا في جعبة حكومته ووزاراته، فتلك كلمة سر أخرى ماتزال خلف البحار.
بانتظار أن تصل بيروت وتعلن على هيئة استشارات وترجيحات تنتهي باسم نال قبول الخارج ورضاه، سواء بتزكية أمريكية أو عربية وحيث لا مكان الآن ولا غدا لعبارة صنع في لبنان!!.