رياضة
كانت تلك الأمسية صعبة عليه؛ حيث بدا شارداً يجلس بمفرده، في حين يتقدم فريقه بخطوات ثابتة نحو درع الدوري الألماني الأول له في ولايته الأولى!
حدث ذلك، بعد أيام من رحيل تيتو فيلانوفا، مساعده في برشلونة وصديق عمره، والرجل الذي أورثه ما صنع في برشلونة وقرر أن يستريح آنذاك، كان تيتو فيلانوفا يعني الكثير بالنسبة له.
لكن، كان من الصعب عليه أن يتقبل فكرة رحيل صديقه ومساعده الشخصي، الذي نسخ منه أفكاره، حتى أنهما كانا يفعلان نفس التصرفات في نفس اللحظة من شدة ألفتهما.
يعرف جوارديولا تيتو منذ عام 1980، حين استراح من كرة القدم لمدة عام في أمريكا، كان تيتو فيلانوفا، مدرب برشلونة في ذلك الوقت، يتلقى العلاج الكيماوي من السرطان هناك.
من الواضح أن جوارديولا لم يزر صديق عمره سوى مرة واحدة، وهو أمر أثار حفيظة الراحل الذي حزن كثيراً على جفاء الرجل الذي توقع منه أكثر مما قدم، وبعد إعلان الوفاة بشكل رسمي، اتصلت زوجة تيتو بجوارديولا لتُخبره ألا يحضر الجنازة لكي لا يجذب الأضواء من زوجها حتى في يوم تأبينه!
كل هذه التفاصيل، وربما أكثر منها، تعايش معها جوارديولا، رغم عدم سعيه إليها، ورغبته في أن يُقدم نفسه بشكل مختلف عن البقية، لكن الصحافة كانت دائماً ما تُحاول أن تفرض عليه أشياءً بعيدة عن شخصيته الخفية التي لا يُظهرها لها.
بسبب علامات الاستفهام التي وُضعت نحو غموضه؛ وضعت الصحافة معاييراً افتراضية من عندها لتفسير ما يفعله الرجل دائماً!
لكن ربما وجدنا سبباً منطقياً لأفعاله اليوم؛ حيث خسر رودري، لاعبه المحوري ونقطة ارتكاز فريقه، المُتوج بالكرة الذهبية بالإصابة بالرباط الصليبي، وخسر العديد من اللاعبين في طليعة الموسم، تأخر أمام ليفربول، منافسه المباشر في الدوري في السنوات الأخيرة وخسر أمامه في المواجهة الرسمية، وتعرض لنكسات متتالية لم تحدث له من قبل!
هل جوارديولا هو نفسه الرجل الذي حاول الاشتباك مع مشجع سخر من مستواه التدريبي مؤخراً؟ هل هو نفس الرجل الذي أشار لجماهير ليفربول بستة أصابع كناية عن عدد الدوريات التي فاز بها في إنجلترا؟ هل هو نفس الرجل الذي خدش وجهه في تصرف غريب وقال إنه حاول إيذاء نفسه؟
من الواضح أن جوارديولا يُلقي اللوم على نفسه، ويُحاسب نفسه على ما يحدث له حالياً، يُحاسب نفسه بطريقة مُبالغ فيها، من الواضح أنه يشعر بحاجته الشديدة إلى تعديل مسار أفكاره وتطبيقها بشكل أفضل، غياب اللاعبين أثر بلا شك، لكن جوارديولا لا يرى متهماً سوى نفسه، ويُقيم المحاكمة لنفسه.
لطالما كان بيب انطوائياً، يُحاول أن يحترم البيئة التي يدخلها، وهو أمر اختلف فيه أهل كرة القدم أنفسهم؛ الذين يظنون أنه يدخل أي مكان ويرتدي ثوب الآمر الناهي وإلا سيتركه على الفور!
مارتن بيرارنو، مؤلف كتاب التطور لبيب جوارديولا، قال إن بيب حاول أن يتأقلم مع كل الأماكن التي دخل فيها، حتى أنه في الحفل التقديمي الرسمي لإعلانه مدرباً لبايرن ميونخ، حاول التحدث بالألمانية في خطة استباقية منه لكسب حب مشجعي بايرن.
حاول بيب، طوال مسيرته التدريبية مع بايرن ميونخ، أن يتحدث في بعض المؤتمرات بالألمانية، رأى أن هذا الأمر أفضل للنادي، والحفاظ على هويته المتأصلة في جذوره، لكن الصحفيين الألمان كانوا يُعانون من لهجته الضعيفة، وعانوا أكثر من إصراره عليها.
بكى بيب جوارديولا، بعد التتويج بلقب كأس ألمانيا في عام 2015 مع بايرن ميونخ، كان غريباً أن يبكي الرجل الكتالوني، الذي لم نره في نفس الوضعية مع حبيبته الأولى برشلونة؛ هذا إن فُسر فربما يكون بسبب شدة الضغط الذي حاول الرجل أن يتحمله دون مساعدة خارجية.
مما قيل، إن الجماهير الألمانية كانت مندهشة، ليس لأنه يبكي؛ بل لأنهم كانوا على قناعة راسخة بأنه مجرد آلة!
كانوا يعتقدون أنه لا يمتلك قلباً، ولا يحتوي على مشاعر، مجرد آلة تُنتج الأفكار وتبيعها على الميدان، وكان هذا اللبس هو الأكثر شيوعاً عن الرجل الذي كان يتأقلم في كل مكان بالطريقة التي تجعله لا يبدو غريباً.
بداخل جوارديولا، كما وصف بيرارنو، لم يستطع أن يتحمل الضغوطات التي طالته طوال مسيرته التدريبية، التي بدأت في صيف 2008، وبدأت بصورة غريبة في صفقة لم تكن مفهومة، بتوصية من يوهان كرويف.
لطالما تعايش مع الأحاديث التي تتهمه بظلم بعض النجوم، بالتعنت مع الإدارة والدخول في مناوشات لفرض رأيه، فلسفة تحتاج إلى الكثير من الوقت، انتقادات صحفية في كل مكان مر عليه، حتى مع الصحافة الكتالونية، التي كانت من المفترض أن تحميه أو أن يحتمي بها.
ترك بيب جوارديولا كل شيء أمام الكاميرات، وكان قليل الحديث عن الأشياء التي يتعرض إليها، لكن كان عادةً ما تأتيه لحظة الانفجار، اللحظة التي يُفرغ فيها الماضي كله في لحظة واحدة!
لا يمكن الجزم بأن ما يعيشه حالياً هو نتاج ما فقده من لاعبين، وسوء مستوى مانشستر سيتي، على العكس، الرجل في موسمه الأول مع الفريق تحمل ما هو أكثر من انتقادات وسخرية من طريقة لعبه، وكذلك الهزائم الكبيرة التي تلقاها.
لكنه أصر على ما يملك، وبعد مُدة استطاع أن يُشير لجماهير ليفربول وهي تسخر منه بستة ألقاب؛ هي حركة تدل على العجز وقلة الحيلة في مواطن عديدة، لكنه يُريد أن يُخبر الجميع بأنه لم يفشل، حتى وإن كان الأمر مرهوناً بالنتائج الحالية.
أشار بيب ستة أصابع، وحقق لقب دوري أبطال أوروبا الأول في تاريخ الفريق السماوي، وأعقبه الفوز بلقب كأس السوبر الأوروبي وكأس العالم للأندية للمرة الأولى في المرتين، وضع بيب جوارديولا مانشستر سيتي على الخريطة الأوروبية.
معاناته المحلية حالياً ليست إلا فترة يُحاول فيها أن يُخرج ما رآه طوال مسيرته، يُريد أن يعيش إنساناً طبيعياً، يُهاجم منتقديه ويتصرف بطريقة عشوائية في بعض الأحيان من شدة الضغط.
لكن، وكما يبدو، فإن بيب جوارديولا، الرجل الفيلسوف الذي لم يكن ينساق لمثل هذه الأحداث، أصبح عادياً، عادياً في ردوده وأفعاله، لم يعد نفس الرجل الوقور الذي يتفادى الصدامات التي ستُحوله إلى نكتة على ألسنة الناس.
وهذا جزاء الفيلسوف إذا أخطأ؛ فإنه يتخلى تماماً عن رداء العقل، ويتجه إلى الممارسات العادية التي يُمارسها غيره: يرد الرد بمثله، ويسخر ممن يسخر منه، ويبدأ في إسقاط الصورة العظيمة التي اعتاد الناس عليها، بنفسه.