آراء
زرت بيروت في شتاء 2019، بالتحديد في شهر ديسمبر، حين فزت في مسابقة للقصة القصيرة آنذاك وتم تكريمي في معرض بيروت للكتاب في جناح دار فضاءات للنشر وجناح دار كونتننتيل وهي دار نشر صينية، لكنها من الأيام القليلة التي لا يمكن أن أنساها في حياتي.
ليس لأنّني فزت، وليس لأنّني تكرمت، بل لأنّها “بيروت”!
أتذكر أنّي حضرت لقاءً حوارياً مع المفكر أدونيس في إحدى قاعات معرض الكتاب، وكانت القاعة مكتظة بالإعلاميين والباحثين والشعراء، وصلت متأخرة ووقفت في آخر القاعة، مَنْ كان يريد أن يتوجه بسؤال لأدونيس يرفع يده، فرفعت يدي ضمن أيادٍ كثيرة، فاختارني مدير الجلسة لأسأل رغم وقوفي البعيد وانغماسِ يدي بين الكثير من الأيادي المرفوعة، وجرت العادة قبل أن يُطْرَح السؤال، يقول المتحدث اسمه وبلده، فقلت اسمي ثم قلت فلسطين من غزة، وبمجرد أن انتهيت من نطق اسم بلدي ضجّت القاعة بالتصفيق الحارّ، تمنيت لو أستطيع الامتنان لكل شخصٍ جالس في تلك القاعة، سألت أدونيس سؤالاً حول فكره إذ كنت قد بدأت القراءة حوله من أجل إعداد رسالتي الدكتوراة في أدبه، قلت له حسبما أتذكر أنك دائماً تقدّم الأنموذج الغربي على العربي، وأنت مثلا معجب بالثورة الفرنسية، رغم أن كلّ فلسطيني يعيش في فلسطين يقدم أروع نماذج الثورة في التاريخ، والثائر الفلسطيني لا يشبه غيره، وأيضاً قبل أن أنتهي من السؤال ضجّت القاعة بالتصفيق، حتّى كدت أبكي من حجم شعوري بهذه الحفاوة العالية، هل تحتفي القاعة بي أم بسؤالي الذي انتصر في لحظة تفكير تنويرية حداثية بين قوسين للثورة الفلسطينية؟ والحقيقة أن أدونيس أجاب إجابة انتقد فيها الانقسام الفلسطينيّ ولم أر في إجابته انعكاساً لسؤالي حتّى أنّ الجمهور لم يقتنع بإجابته ثمّ وجدت مدير الجلسة بصوتٍ مرتفع يوجّه تحية لي ولسؤالي ولغزّة ولكل فلسطيني حرّ.
لم ينته الأمر هنا، حين انتهت الجلسة الحوارية، وجدت اللبنانيين من الحضور يتوجهون لي ويرحّبون بي، ويوجّهون لي دعوات لشرب القهوة أو لحضور جلسة ثقافية ورأيت بعضهم يشير لي ويقول هذه الغزاوية.
ظلّ هذا المشهد من اللقطات التي لا يمكن أن أنساها، عدت من بيروت إلى غزّة، وقد وقر في قلبي هذا المعنى جدا (ينتصر اللبنانيّ لفلسطين دائماً).
وكنت أتخيّل أنّ ذلك المشهد قد نُسيَ لأتفاجأ بعد عدّة سنوات بزميلنا الشاعر العراقي الدكتور وليد الصراف أثناء حضور تكريم لي في الكويت على هامش توزيع جوائز مؤسسة عبد العزيز البابطين عام 2023، إذ كنت ألتقيه لأول مرّة، فقال أول ما رآني أمام جمع من الشعراء.
أهلاً بآلاء، الشاعرة التي أحرجت أدونيس بسؤالها في معرض بيروت للكتاب !
والحقيقة أنّه ليس الموقف الوحيد الذي رسخ في ذاكرتي أثناء وجودي في معرض الكتاب، فقد أقامت لنا دار فضاءات حفل توقيع، وبينما كنت أوقعُ كتاب القصص القصيرة الفائز للأصدقاء، جاءني رجل وقال لي هل يمكن أن توقعي كتاباً باسم قائد في الجيش اللبناني، هو لا يستطيع أن يترك مكانه، وطلب منّي أن أحصل على نسخة من أجله، يبدو أنّهم انتبهوا بأنني فلسطينية ربما (من ارتدائي لفستان مستوحى من تراثنا الفلسطيني)، فقلت له: “بكل سرور”.
كتبت له إهداءً ووقّعت اسمي وكتبت غزّة، مرّ القليل من الوقت حتى وجدت رجلا يرتدي زي الجيش اللبناني يقف أمامي، قال لي أنا من طلبت الاهداء، كيف أرى اسم غزة ولا آتي لك بنفسي لأشكرك.
عدت إلى غزّة في عيوني دموع امتنان وفي قلبي نبض محبة لبيروت وأهلها، تلك المحبة التي لم أقرأها في الكتب بل لمستها حقيقة ووضعت يدي على قلبها فأحسستها جداً.
كيف لا أحبّ لبنان بعد ذلك ؟
الحقيقة أنني دائماً أجد فلسطين نابضة في قلوب اللبنانيين، حين اندلعت الحرب الأخيرة في لبنان بكيت بحرقة، لأنني أعرف ماذا يعني أن تندلع الحرب وأن يموت الناس وأن ينزحوا وأن تقصف البيوت، لكنني كنت أرى مقاطع فيديو لنساء من الجنوب يقلن لا بأس كله فداء لإخوتنا في غزة، نحن نعرف بأننا نقف وحدنا بين الرصاص، وأننا نمشي حفاة فوق الخناجر، وأنَّ ظهرنا مليء بالطعنات، لكن يكفي أننا حين نصافحكم يا أهل لبنان، لن نبكي خذلاناً، بل سنبكي امتناناً.
تليق بكم الكرامة والرفعة والنصر والعزّة، دمت زاهياً يا لبنان، زهوك الذي تستقيه من تنوعك ومن جمال شعبك وأصالته واتساعه وثقافته وشعريته ومقاومته ورفضه للهوان والذل، شعب كريم أصيل يستحق الحياة والرفعة دائماً.