في غزّة لا تملكُ أن تحرّكَ قراراً دوليّاً أو اتفاقاً تفاوضياً بشأنِ حياتك، إنّك فقط تراقبُ موتك أو حلول معجزةٍ سماوية لتنقذك من بين هذا الخراب، تجرُّ جسدكَ الثقيل على الأيام حتّى أنّك تحسدُ الشهداء على رحيلهم.
فالشهداء منذ لحظة رحيلهم لن ترعبهم هشاشة الخيمة أمام الصاروخ، وستتوقف مخيلتهم عن ابتكار مشاهد موتهم حرقاً أو تقطيعاً، بالرصاص أم بالقذائف أم بالصواريخ.
الشهداء لن يقفوا على طابور التكية للحصول على طعامٍ ممل، لا طعم له ولا لون ولا رائحة، فالحرب غيّبت كل ملّذات الحياة عن حواسّنا، والشهداء لن يفكّروا في كيفية الحصول على المياه الحلوة كل صباح في ظلّ انهيار مصافي التكرير وتوقفها بسبب نفاد السولار اللازم لتشغيلها.
والشهداء لن يخافوا إذا أمطرت السماء أنْ تبتلّ ثيابهم وهم لا يملكون غيرها، أو أن تتهتك أحذيتهم جرّاء الوحل والتي لا يجدون سواها.
فالشهداء الآن في جنانٍ ونعيم خالد وقد انتهت عذابات الحياة الدنيا للأبد. أمّا الناجون فتكلفة بقائهم عظيمة، إنَّ صمودهم الهشّ يتحوّل إلى “تريند” لزيادة المساعدات وللمناشدات الدولية لإدخال الحليب ومعلبات الجبنة والفول، الناجون يفكّرون في كلّ لحظة مَنْ هو الشهيد التالي وفي أي مقبرة، وهل سيحالفهم الحظّ فيجدون كفناً له أم لا!
الناجون اختباراتهم لا تنتهي؛ يصنع من أجلهم المغنّون أغنية تتحوّل إلى “تريند” ويحصد صاحبها ملايين المشاهدات بينما هم يموتون من العطش، تقرر ممثّلة أن تدعمهم فتحمل حقيبة مرسوم عليها الكوفية أو تضع دبوساً لعلم فلسطين فوق صدرها، تتحول أيضاً إلى “تريند” ومئات المعجبين واللقاءات الصحفية لجمال دعمها لهم، بينما الناجون هنا يموتون من الجوع!
لن يعرف أحدٌ عن قصص الناجين، وعن آلاف الأيتام والثكالى والأرامل، وعن الجرحى الذين يموتون وهم ينتظرون فتح بوابة المعبر لإنقاذ حياتهم. لكن ستتحول لوحة رسّامٍ مشهور قرر أن يرسم طفلاً بلا قدمين يتحسس بكفه جزءها المبتور فتصبح لوحته “تريند” بينما يسأل الطفل أمّه كل يوم متى ستنمو أقدامي يا ماما؟!
الناجون في غزّة يكرهون النفاق العظيم لكلّ من يحاول استغلال معاناتهم، في كل مرّة نجوا فيها من الموت، أصبحت عيونهم أكثر شفافية، يستطيعون رصد المنافق بها من الصادق! إنّهم يرون كلّ أولئك الذي يضعون رمز أحزنني على منشورات فقدهم، ثم يكملون شرب قهوتهم، وهم لا يعترضون إذا كنت ستخرج في موعد مع حبيبتك أو إن كنت ستذهب إلى السينما أو أن تقوم بسفر للاستجمام، لكنهم يتساءلون لماذا تركت رمز (أحزنني) بينما تمارس حياتك الطبيعية بكامل ألقها؟!
احذرْ أن ترصدك عين أحد الناجين فتصيبك لعنة قلبه للأبد ! إنهم لا يستجدون دعمك، إنّهم فقط يطلبون منك ألّا تكونَ منافقاً!
رأيتُ ناجياً في غزّة يحرق كتاباً لحقوق الإنسان..
سألته: لماذا تحرقه ؟
قال لي: طفلي اشتهى طبقاً من الأرز وقد نفد الحطب..
فقلت له: وهل ناره جيّدة؟
قال: نعم إنّها ممتازة، إنّ أسرع شيءٍ يوقد النّار هو الكذب، إذا وجدت أيَّ كتب عن حقوق الإنسان أحضرها لي رجاءً، فطفلي جائع ولا حطب لديّ!
رأيتُ ناجيةً أخرى تقف أمام المرآة وتتكلّم معها..
سألتها: ليس لديك أصدقاء؟
قالت لي: كلّهم ماتوا..
فقلت لها: وهل المرآة صديقة جيّدة؟
قالت: نعم إنها على الأقل لا تكذب عليّ، لا تقول لي مثل السّاسة أنتِ بخير، إنّها تريني حزني كاملاً وتُخبرني أنني أصبحت وحيدة..
قلت لها: لكنّ كلماتها تجرحك..
قالت: تجرحني لكنها صادقة، أرجوك إذا وجدت مرآةً أخرى أحضرها لي أخاف أن تنكسرَ من القصف فأفقدها ولا أجدني!
رأيتُ ناجياً ينادي على الشهداء تحت ركام بيته..
سألته: ما هنالك ؟
قال: أريدهم أن يتناولوا الغداء قبل رحيلهم
قلت: هل هو جاهز؟
قال: نعم منذ 300 يوم وأنا أنتظرهم..
قلت: ألم يبرد الطعام؟
قال: أسخّنه كل يوم
قلت: ألم يفسد؟
قال: لا يفسد لأنّني لم أجلبه من موائد المتخاذلين، إننّي زرعته في أرضي، هذا زعتر وهذا زيتون وهذا سلق..
قلت: وهل تكفيك هذه الأرض الصغيرة بين الركام لتزرع ما تشاء؟
قال: المهم أن أجد الغداء لستة أفراد كل يوم، زوجتي وأطفالي الخمسة تحت الركام..
قلت: وهل وجدته؟
قال: وجدته، لكنهم منذ 300 يوم لم يأكلوا!
هؤلاء هم الناجون الذين لن يتحمّلوا أن يكونوا أوراقاً في الملفات السياسية التفاوضية، إنّ قلوبهم أصبحت هشّةً جدّاً أمام هذا العالم الجاحد والذي لا يراهم سوى أرقام إذا انمسحت لن يؤثر على ديموغرافيا الكوكب، يترهل الإعلام في تصوير معاناتهم، بينما هم تتحول أعينهم الشفافة إلى سيف على رقاب المنافقين، لذلك احذر أن تكون منافقاً فتراكَ عين أحد الناجين فتصيبك لعنته للأبد!