رياضة
لا أحد يتذكر بالتحديد متى خرج كيليان مبابي ليُصبح بهذا القدر الكبير من الشهرة، حينما كان في ريعان شبابه بالمعنى الحقيقي للكلمة، وُلد نجم، وُلد كأنه من بين أفضل لاعبي كرة القدم في العالم، واكتسب شهرة طاغية بسرعة كبيرة.
ثاني هدافي كأس العالم في روسيا، هداف كأس العالم في قطر، مُسجل الهاتريك الوحيد في نهائيات كأس العالم بالمناصفة مع الإنجليزي جيوف هورست، كل هذه التفاصيل رفعت من قيمة كيليان مبابي، ربما جعلته أعلى شأناً من بقية أقران جيله باختلاف أسمائهم.
اشتهر كيليان مبابي منذ بداياته بأنه مُحب لريال مدريد وأساطيره، ربما كان متوقعاً أن يكون من بين أفضل لاعبي العالم في القريب العاجل، حتى من داخل جدران فريق موناكو الفرنسي، لكن في القصة فواصل لم تكن منطقية!
في الوقت الذي ذهب فيه ريال مدريد لتغيير قوامه الرئيسي، وإحلال أغلبه، كان كيليان مبابي من بين أكثر الأسماء المطروحة على الطاولة المدريدية، لكن، وعلى عكس المؤشرات، تفاجئنا جميعاً بالصبي الفرنسي يُدير ظهره لريال مدريد، ويختار أن ينتقل إلى باريس سان جيرمان، في نفس السوق الصيفي الذي وصل فيه البرازيلي نيمار إلى صفوف النادي الفرنسي.
كان من الواضح أن كيليان مبابي يبحث عن أشياء أبعد من كرة القدم في كل ما يخص كرة القدم نفسها؛ لم يعتبر نفسه أبداً موهوباً فحسب، بل رأى في نفسه، ورأت والدته فيه، البقرة التي تُدر الحليب كما يُقال.
بحث كيليان مبابي عن السلطة، حتى وإن قاسمه فيها نيمار دا سيلفا، وبعد ثلاثة أعوام سيصل إليهما أيضاً ليونيل ميسي، ومن قبله كان إدينسون كافاني، بحث كيليان مبابي عن الكم والكيف في آن واحد رغم كل هذه الظروف، وألا يفقد بريقه مهما كانت النجوم في سمائه.
حتى وصل به الحال، قبل رحيله عن باريس سان جيرمان، أن يُصبح صاحب الامتيازات الكُبرى في الفريق، ويتم تقديمه على نيمار وميسي في أوقات مصيرية من إدارة النادي، وتُوافق الإدارة على كافة متطلباته المادية والمعنوية تقريباً في كل صيف؛ لتتفادى سلسلة اتصاله بريال مدريد المملة التي يضغط بها على الفريق وإدارته.
لم يكن كيليان مبابي مُتسلطاً؛ أي أنه يطلب أشياءً تفوق ما يستحقه، لكنه كان يبحث عن الامتيازات، وفي الوقت نفسه لم يظهر عليه أنه يبغض زملائه في الفريق، ويتآلف مع الجميع ويتفاهم معهم، سواء في ريال مدريد، باريس سان جيرمان أو حتى منتخب فرنسا.
في النهاية، وبعد أن سئم كيليان مبابي من الوضع الباريسي، وبعد أن أدرك استحالة تحقيق لقب دوري أبطال أوروبا مع الفريق، وكذلك استحالة تحقيق الكرة الذهبية في باريس، حتى وإن كانت الجائزة نفسها تُقدم في نفس المدينة!
قرر كيليان مبابي أن يترك رداء الكِبر عنه، ويتخلى تماماً عن المبالغات الخاصة بتقدير نفسه، وخرج نحو ريال مدريد في صفقة مجانية، لكن كل ما حصل عليه كيليان مبابي خلالها يفوق ما كان سيحصل عليه باريس لو كانت صفقة مدفوعة.
خسر باريس سان جيرمان كل شيء أمام كيليان مبابي؛ خسر المحافظة على اللاعب الذي يتوقع أن يكون صاحب الكرة الذهبية في السنوات القادمة بالمنافسة مع إيرلينج هالاند، وخسر المماطلات الطويلة التي كان يرضخ إليها في كل صيف مع كيليان ووالدته، ثم خسر القيمة التي كان سيتحصل عليها من بيعه لريال مدريد، وأصبحت التكلفة الإجمالية كلها في جيب اللاعب الفرنسي.
يمكن تسمية ما قضاه كيليان مبابي في باريس سان جيرمان بفترة النقاهة؛ الفترة التي يتدلل فيها بصورة سخيفة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يعتقد الناس أنه يستحق هذا التدليل وأكثر.
وافق باريس سان جيرمان على كل ما أمر به كيليان مبابي؛ ربما ظناً من إدارة الفريق أن عمره الكروي أطول من ليونيل ميسي وكذلك نيمار دا سيلفا، وإن كان ضرورياً أن يُضحى الفريق بأحد، فإنه سيختار أن يُضحي بالثنائي من إجل الإبقاء على كيليان مبابي.
لكن الحياة ليست هكذا في ريال مدريد، الفريق الذي لا يعرف إلا الألقاب والسيط والقوة، الفريق الذي ركض خلف كيليان مبابي لسنوات، لكنه في الوقت نفسه، وبأي حال من الأحوال، لن يعتبره أفضل من كريستيانو رونالدو الذي جلب له أربعة ألقاب من دوري أبطال أوروبا.
تعامل فلورنتينو بيريز مع أساطير ريال مدريد بقانون المادة، وقرر أن كل من سيُماطل ويغتر؛ سيتم تعويضه فوراً، لا لشيء أكثر من أن يُظهر بيريز للجميع أن ريال مدريد يستطيع إيجاد حل لكل مشكلة، مهما بدت مُعقدة!
هل يعرف كيليان مبابي هذا الأمر؟ بكل تأكيد، لا أحد يجهل سياسة ريال مدريد في إدارة عناصره الداخلية، حتى وإن كانت ذات بريق، وإن حققت أهم الألقاب في ظروف استثنائية وصعبة، وبالتالي فإن كان كيليان مبابي مميزاً لموهبته، فإنه لن يكون خارجاً عن سرب ريال مدريد الذي يُغرد في أُفق بيريز.
لا يبدو بالنسبة لي أن صفقة كيليان مبابي لريال مدريد صفقة فاشلة، حتى وإن ذهب لأي فريق آخر، لم يكن ليفشل، لكن بعد كل الرفاهية التي تعايش معها كيليان مبابي في صفوف باريس سان جيرمان، عليه أن يتنازل قليلاً أو كثيراً داخل ريال مدريد.
من الواضح أن أجواء مدريد العامة ليست كالتي كان عليه كيليان مبابي في صفوف باريس سان جيرمان، حيث أصبح في مدريد محط انتقادات بالغة؛ بالنظر لمساحة الرؤية الواسعة التي يتواجد فيها، والأعين التي باتت تراقبه، والتطلعات التي تُبنى عليه.
بكل تأكيد يحتاج فلورنتينو بيريز في فريقه إلى وجوه شابة تستطيع أن تحكم العالم في السنوات القادمة، لكن بالمنطق، فإن ريال مدريد كان يسعى وراء كيليان مبابي لتثبيت نفسه فيما هو عليه، وليس للحصول على كيليان مبابي البطل المغوار الذي سيُنقذ ريال مدريد في حقبة ما بعد كريستيانو رونالدو!
كيليان مبابي يحتاج إلى ريال مدريد أكثر من حاجة ريال مدريد إليه، سواء في الوقت الحالي أو على المدى البعيد، حقق ريال مدريد دوري أبطال أوروبا في وجود رونالدو وغيابه، في خلافة بنزيما وغيابه، في توهج فينيسيوس جونيور وقبل مجيئه، يُريد ريال مدريد أن تظل المعادلة هكذا؛ مهما كان الرقم الذي يدخل فيها لا بد من أن تمنحه نفس القيمة.
بالتالي، كيليان مبابي ليس الرقم الفريد الذي سيُصحح معادلة ريال مدريد، لكنه سيُحافظ له عليها بلا شك إذا سارت الأمور كما هو متوقع، لكن حاجة كيليان مبابي لريال مدريد بدت أكبر، بعد الخروج المتكرر من دوري أبطال أوروبا في وقت يُسيطر فيه ريال مدريد على القارة، وحاجته إلى الكرة الذهبية التي لا تكتفي باسم باريس سان جيرمان وإنما تحتاج إلى واجهة أكبر كريال مدريد.
سيحتاج كيليان مبابي إلى إثبات نفسه في ريال مدريد، والتنازل عن فكرة الفتى المدلل التي تربى عليها في باريس سان جيرمان، هو الآن في ريال مدريد الرجل الذي يُعتمد عليه، والذي ينبغي له أن يُثبت لماذا كان كل هذا السعي من أجله!