لا أعرف بماذا ألّقب شمال غزّة، لكنه يشبه الآية التي تقول: “فأينما تولّوا فثم وجه الله” وكأنّي أحس أن فيوض الله عز وجل تتجلى على كل ذرة في شمال قطاع غزّة، والذي يحوي بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا والشجاعية وغزة والشاطئ. نحن هنا في قطاع غزّة إذا شعرنا بشخصٍ رأسه يابس نقول له: هل أنت جبالي؟ نسبةً إلى جباليا؟ ولكننا اليوم نقول إذا أردتَ أن ترى وجه الله الذي يتجلّى في الجهات كلّها اذهب إلى جباليا.
منذ أول يومٍ في الحرب يرفض أهل جباليا النزوح، وكأنّ أحداً سلسلهم ببيوتهم وأراضيهم وحواريهم وأزقتهم وشوارعهم، لا تقهرهم الأباتشي ولا تكسر ظهورهم الميركافاه، من أنتِ يا جباليا؟ وكيف تصوغين كل هذا، حتى أن المقاومين فيها لا يشبهون غيرهم إنّهم يقاتلون حدّ الفناء أو الإفناء، ولا أحد ينسى ذلك المقاوم الذي استشهد فأمسك صديقه بندقيته وأكمل الاشتباك ببسالةٍ لن تصوّرها بعدهم أعظم المشاهد الدرامية، لأنّها ببساطة حقيقة الفدائيّ في غزّة.
يغادر أهل جباليا إلى السماء، ليس إكراهاً فهم الذي اختاروا عدم النزوح منذ عامٍ كامل، استخدم ضدهم الاحتلال كل وسائل القمع العنصرية من تجويع ومجازر ومذابح جماعية، تطلع لنا رسالة بين بنت ووالدها تسأله عن النزوح: “جنوب غزّة أم الجنّة؟” فيردّ: “الجنّة”!
مَنْ نحن لنتكلم اليوم بعد هذا؟ ومن أصلا سنكون في ميزان الله والمقاومة؟ وما هو تعريف المرابط الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم “خير الرباط رباط عسقلان”، وغزّة جُغرافياً تتبع لعسقلان، فوالله إنكم خير المرابطين على الأرض يا أهل شمال غزّة.
وحينما أتأمل مشهدية هذا الرباط العظيم يحضرني مشهد الأنصار مع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وزع الغنائم على العرب فحزن الأنصار لأنه لم يعطهم شيئاً وحين علم ذلك سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم وخطب فيهم خطبة من أروع ما يمكن أن تُسْمَعَ على الإطلاق قال لهم يا معشر الأنصار أترضون أن يعودوا هم بالشياه وتعودون أنتم برسول الله ؟ فبكي الأنصار آنذاك وهم يقولون نرضى بك يا رسول الله. أنتم أولئك يا أهل شمال غزّة.
سيعود العرب بتطبيعهم وبمواثيق السلام المخزية وبخذلانهم وبتخلّيهم وبسكوتهم المجرم وستعودون أنتم إلى الله ورسوله بدمائكم الزكية وأجسادكم الذابلة من الجوع والصمود والحرمان والرصاص وشظايا الصواريخ وبثباتكم وبرباطكم المقدّس، ألا ترضون؟ وفي اليوم العصيب حين تُنشَر الموازين يعلم الخلق أنّ الغبار الذي على أحذيتكم هو أغلى من الدنيا وما فيها عند ربّنا العظيم. يرجع العالم بخزيه إلى مجلس الأمن ومقرّ الأمم المتحدة، وترجعون أنتم إلى الله ليس في قلبكم سوى الله، أولا يكفيكم هذا؟
منذ اليوم الأول؛ كان هنالك مخطط عظيم لتهجير الشعب الفلسطيني عن قطاع غزّة، لم يوقف مخطط التهجير مجلس الأمن ولا الحكومات ولا المنظمات الإنسانية ولا قوات التحالف الدولية، الذي أفشل مخطط التهجير القسريّ هم أهل شمال قطاع غزّة، لولا هذا الثبات الأسطوري لن نحلم برؤية مدينة غزّة مرّة أخرى، لكننا سنحلم أن نراها وسنظلّ نحلم بأن تعود أجمل مما كانت عليه، لأنّكم مازلتم هناك يا أبطال الرباط وأحفاد المجاهدين.
إنّ أرضنا مقدسة، ما من ذرة تراب إلا ومشى عليها نبي أو سجد عليها وليّ وأخيراً انعجن ترابها عجيناً بدم الشهداء، إنني أحياناً أستحي حين أمشي في شوارعها وأدوس على ترابها بحذائي، لأنّه ما من شبرٍ إلا ونزف به شهيد.
يا أهل شمال غزّة..
اليوم، أو غداً، أو بعد غد.. سيعلم الذين خذلونا أيّ قومٍ على الأرض خذلوا، وأي أناسٍ من صفوةِ الناس تركوا، وأيّ مرابطين قد أداروا لهم ظهرهم، وحين يدركون ذلك لن نكون بحاجتهم، ونحن اليوم لسنا بحاجة أحد، فقد أدركنا أن أمرنا بيد الله وحده، ويكفينا شرفاً أنّه اختارنا من شعوب الأرض لنكون في أرض المحشر والمنشر ولنكون من أهل أكناف بين المقدس ونتحقق بالحديث الشريف: “لا يضرهم من خذلهم “. فالثبات الثبات، إن الله يغارُ علينا ولكن للحادثات مواقيت، وإن للنصر أوان وإن مع العسرِ يسرا، وإنّ اليُسر حقّ وإنّ الفرج قريب وسيُشهدنا الله على غضبه من أجلنا وانتقامه “ويومئذ يفرح المؤمنون”.