هل يمكن أن تصبحَ المرآة وحشاً مخيفاً؟ هل سبق أنْ أخافتك المرآة ؟ صديقتي تخبرني أنها بعد قضائها سبعة شهور في الخيمة أصبحت تخاف النظر إلى وجهها في المرآة، والحقيقة أنني أعرف أنّ المرايا تحب النظر في وجهها لجمالها، تغافلت عن هذه الجزئية في حديثها واكتفيت بابتسامة متألمة على شفتي، لكنني فكرتُ بصدقٍ كمْ أصبحتْ المرآةُ مخيفة!
كلّما وقفتُ أمام المرآة أُغمضُ عيوني ثم أفتحها رويداً رويداً وأنا أتمتمُ برجاء: “أرجوك أيتها المرآة لا تخيفيني” والخوف من المرآة يشبه أن أنظر في عيوني فأبصرُ الآن صوراً كثيرة متألمة فيها، كأن أسمع عيوني تقول: “ما أشدّ هذا الشجن”!
وتستطيع أن تخبرني عيوني في المرآة أنّ صورتي ناقصة كثيراً، وتُذكّرني أنّ هنالك أربعة وجوهٍ غائبةٍ تماماً عنها، فالمرآة تقرأ عيوني جيداً وهي تقول لي: “وأنتِ تخوضين ملحمتك العالمية في الصبر أنت تنهارين كثيراً، تبكين فجأة في منتصف الليل، تبتهلين إلى ربك راضية ولكنك فجأة تقولين له: لقد تعبت يا حبيبي، أرجوك لا تجعلني أهون عليك !”
وأسمعها تقول بينما أرى وجهي مسالماً جداً كبحيرةٍ راكدة تحت سماءٍ صامتة : “لقد جعلك الحزن أكثر جمالاً ووضاءة. لا تغسلي وجهك بعد كل مرة تبكين بها، ذلك الدمع الذي توضأ من ماء عينيكِ الصابرتين أطهرُ من كل ماء الدنيا. تعالي وامسحيني أنا المرآة، فإنني أحتاج أن تغسلني يداكِ مِنْ أَدْرَانِي. وانظريْ لي لا تخافي، سأخبركِ في كلّ مرّة، أنتِ امرأة جميلة وشامخة ولا بأس أن تبكي وأن تنهاري وكلّما اشتقتِ لكتفٍ تنامين عليه أطمئنُ عليكِ “
هكذا كانت تصالحني المرايا، كنتُ أخاف منها بداية ثُمَّ أصبحتُ أحبها، لقد كانت تعرفُ كيف تتكلمُ معي، لأنّها كانت تجيدُ قراءتي، لذلك لم أعد أخاف إذا سالت دموعي أمامها ولم أعد أخجل منها إذا ضحكت، فأنا أشتاق كثيراً لرؤيةِ ضحكتي عبرها، نحن نشتاق لأنفسنا قبل الحزن، إنَّ الفقد تجربة قاسية جدا ومريرة، إنّها تجعلك تخجل من عيونك إذا لمعت فجأة ومن قلبك إذا خفق بصوت عالٍ، ومن مسامات وجهك وهي تستجيب لنسمة هواء باردة، لكنّ المرآة استطاعت أن تقول لي “لماذا ستقتلين الطفلة في داخلك، إنّها مازالت تتنفس، دعيها علّها تهوّنُ عليكِ الطريق”.
لقد درّبتني على الحبّ، نظرةً بعد نظرة، كأمٍّ تساعد طفلها على المشي لأول مرّة، لكنّها كانت معي كأم تساعد طفلها الذي كان يعرف معنى المشي والقفز أكثر من كل أطفال العالم ثم انكسرت قدمه فحاولت أن تدرّبه مرة أخرى على الوقوف، وإحساس قدمه على الأرض بعد الكسر لا يشبه إحساس أول مرةٍ يقف فيها بسبب نموّه، إنّهما إحساسان مختلفان جدّاً، في المرّة الأولى يستجيب جسدك للطبيعة الفيسيولوجية للنموّ، وفي المرّة الثانية وأنت تفكّ الجبيرة وتنظر إلى الانتفاخ الأزرق الكبير تحتها، ثم تضعها على الأرض تجسّ ألمك وحدك، لكنك تقرر أن تمشي، في تلك اللحظة سيراقبك الكون والكواكب في دورانها وقطعان الأيائل وهي تقف على النهر بعد ارتوائها تنظر إلى السماء نظرة بعيدة وطويلة، والنسور وهي تمدّ أجنحتها تتعقّب طرائدها، والنجوم وهي تُسرّح بضوئها جدائل الستائر المائلة خلف الشبابيك المعتمة، إنّها لحظة شهودٍ كونية، لأنّك تنتصر فيها لقدرة الإنسان على الحياة، لذلك الكائن الذي جعل الله عز وجل ملائكته تسجد له وحين خلقه أسماه الله بالخليفة، يدوس على ألمه بينما يقول: يا الله، فيصبح الألم معراج الروح إلى ربّها وفطرتها وهي ترد عليه يوم أنْ خلقها في عالم الذرّ ( بلى ) حين سأل ( ألست بربّكم).
كنتُ أضع يديَّ فوق عيوني كلّما وقفت أمام المرآة لكي لا أراني بسرعة، أرفع يداً وأتركُ أخرى، أفتح عيناً وأغمض أخرى، ثم وجدتني أرفع كلا اليدين مرّةً واحدة، وأنظر إليها بعينين مفتوحتين تماماً، وعرفت أنني ربّما أستطيع أن أتعافى وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة بعد عامٍ كامل من الحرب والحزن والفقد والخوف والبكاء بثبات وإن للحظةٍ قصيرةٍ واحدة.