أسفار

إشبيلية: حكاية أخرى

سبتمبر 19, 2024

إشبيلية: حكاية أخرى

 

وقع اختيار موسى بن نصير، أول ولاة الأمويين في الأندلس، على إشبيلية لتكون حاضرة لولايته، نظرًا لموقعها الاستراتيجي القريب من الشاطئ المغربي، حيث تتركز قواعد الجيوش الإسلامية، إضافة إلى ارتباطها بسهولة بباقي المدن الأندلسية دون عوائق تُذكر. ولكن هذا الامتياز لم يدم سوى ثلاث سنوات فقط؛ إذ تسارعت الأحداث بعد عزل موسى بن نصير، مما أدى إلى مقتل ابنه وولي الأندلس بعده، عبد العزيز بن موسى، في سنة 98هـ/717م. كما فشل خاله أيوب بن حبيب اللخمي في الاحتفاظ بكرسي الولاية لأكثر من أشهر قليلة. وعندما تولى الحر بن عبد الرحمن الثقفي حكم الأندلس في نهاية عام 98هـ، قرر نقل العاصمة إلى قرطبة.

 

بعد انتصاره على جيوش قشتالة في موقعة الأرك الشهيرة (يوليو 1195م)، نال يعقوب المنصور لقبه عن جدارة. أراد هذا القائد تخليد انتصاره التاريخي، فقرر تشييد مئذنة سامقة لمسجد إشبيلية الجامع. جاءت هذه الصومعة شاهقة الارتفاع تطل برشاقة على حديقة إشبيلية وما يحيط بها من منطقة الشرف. بعد موقعة الأرك، أمر المنصور بصنع أربع فتاحات مذهبة لتزين قمة المئذنة، ورفعت في حضوره، حيث أزيحت عنها الأغشية لتبهر أنظار الحاضرين ببريقها.

 

ولكن مع الأسف، تحولت هذه المئذنة التي كانت رمزًا للسيادة الإسلامية إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت محل المسجد الجامع، وهي تُعرف اليوم باسم “الخيرالدا”. هذا الاسم جاء من تمثال برونزي صنعه برتولومي موريل عام 1567م، يمثل السيادة المسيحية ويدور مع الرياح، ومن هنا جاءت تسميتها بـ”دوارة الرياح” أو “الجيرالدا”. يبلغ ارتفاع الجزء الإسلامي من هذه المئذنة 65.69 مترًا، مما يبرز روعة العمارة الإسلامية في الأندلس.

 

لكن، تألم قلبي كثيرًا عندما زرت هذه المآثر. وبدل أن أواصل استكشاف مباني إشبيلية، شعرت بعمق الجرح وانزويت بنفسي بعيدًا. خاصة بعد أن رأيت المسجد الجامع، الذي استغرق بناؤه وحده أزيد من عشر سنوات. تذكرت ما كتبه المؤرخ الأمريكي جوناثان ليونز في كتابه “بيت الحكمة” عندما قال: *”عندما سقطت إشبيلية عام 1248، لم تكن القوات القشتالية الهمجية تدري أن مئذنة الجامع الكبير في المدينة كانت أيضًا أول مرصد فلكي في أوروبا. لم يدر الغزاة ماذا يفعلون بهذا الهيكل الشاهق، فحوّلوه إلى برج حراسة.”*

 

أصابني الحزن العميق، ولم أستطع الاستمرار في الزيارة. انزويت بجرحنا النازف، غير قادرة على استيعاب كيف خسرنا هذه الأمجاد والفنون والروعة.

 

 

 

شارك