صباح نورك الذي يملأ ظاهري وباطني، يوم أن انطفأت نار المجوس انطفأت نار استيائي من الذين يحاولون إيذائي، ويوم أن سقطت شرفات كسرى، سقطت كل شرفةٍ في روحي لا تطلُّ على الله، ويوم أن تزيّنت السماء بولادتك تزيّنت روحي بك، لقد علّق ربي عليها ملايين النجوم، لذلك حين كانت تمر ليالٍ دامسة الظلام، كانت روحي تضيء، وحين كانت تفترسني الكآبات والهموم، كانت نجمة اسمها محمد لا يغيب نورها عني فتمسح برفق فوق كل جروحي، لذلك كنت أعرف دائماً أنّها ليست نهاية القصّة، وأنّ الألم مؤقتٌ آنيّ، وأنّ بزوغ الأمل حتميّ.
صباح الخير أيها النبيّ الحيّ..
اخترت أن أُلْحِقَ كلمةَ الحيّ باسمكَ لأمرٍ أحسه حقيقةً، كلّما رأيت الخطاب القرآني يصرّ ألا نعتقد بموت الشهداء وألّا نقول بأنهم قد ماتوا، فأقول فكيف بالرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو أعلى وأشرف وأطيب وأزكى مقاماً.
لقد ساعدني إحساسي الدائم بأنك حيّ وتسمعني على التعايش مع فكرة فقداني أطفالي الأربعة بعد أن قتلهم الكيان الصهيوني بدم بارد، يبدو الأمر مأساوياً جداً على أيّ أمٍّ في العالم، لكنّ حبّي لك أنقذني من هذه المأساة، فقد قلت في نفسي: “اسمعي يا آلاء هم لم يموتوا، هم انتقلوا فقط إلى مكانٍ آخر ولأنّ الدنيا هي حجاب، فأنتِ لا تستطيعين رؤيتهم، انظري كيف تتعاملين مع حضرة النبي عليه السلام، تعاملي معهم”.
كنتَ دائماً تساعدني في هذا الطريق الوعر يا سيدي يا رسول الله، لكنّ هذه المرة هي أكثر مرة أمتنُّ لكَ عليها، لأنّك نقلتني من امرأة مكلومة فاقدة حزينة، إلى امرأة ناضجة معلمة ملهمة، فقد تحول حزني العظيم إلى معلم عظيم.
وقد أدركت هذا من كم الرسائل التي تصلني يومياً من كل مكان في العالم يخبرونني بها أن صبري علمهم الكثير، أو أن انكساري ساندهم في انكساراتهم والتي صاروا يرونها صغيرة أمام عظمة انكساري، وكيف يتحول الألم إلى منهاج تربوي ونور سرمديّ يسري في الظواهر والبواطن؟ يحدث كل هذا حين تكون أنت المعلم الأكبر والقدوة الأمثل والنموذج الأسمى والحبيب الأقرب.
بعد عامٍ كامل من الحرب علينا في غزة والمأساة أستطيع أن أقول لك صباح الخير يا سيدي يا رسول الله، لأنّ ربك الجميل الذي أرسلك لنا لا يُقَدّرُ إلا الخير، وإنّ المفاهيم العظيمة للإسلام والتي استغرقت منك عمرك كله وأنت تحاول إيصالها لنا، على صعيدي الشخصي لا أستطيع خذلانك لأنني أستحي منك، فكل ما أصابنا هو قطرة في ابتلاءاتك العظيمة، وإنني أحتسب صبري العظيم هذا لوجه الله ونيتي أنْ تفرحَ بامرأةٍ من أمتك يا رسول الله.
جئنا في زمنٍ بعيد بعدك، لكننا نعيش زمنك، لست وحدي بل كل أهل غزة يا حبيبي، لقد أُخْرِجْتُ أكثر من مرة من بيتي عنوةً، حتى إنني وددتُ لو أنّ يدي تحسّ كلَّ جدار وكل مقعد وكل بلاطة به، وما أوجعني أكثر في نزوحي هو أنت، لأنني فكرت كم أنّك تألمت وأهلك يخرجونك من مكّة يا حبيبي، واكتشفت أنّ حزني على حزنك هو أعظم بكثير من حزني على حزني، شيءٌ لا أستطيع تفسيره عبر اللغة لكنَّ الأمر تذوقهُ الروح ويغلبه المعنى فيتسمّر مشدوهاً أمام الحروف لكنني أيقنُ أنك تفهم كنه معناي تماماً.
ولقد غابت عنا أغلب الأطعمة، في أيامٍ كثيرة افتقدنا الخبز ونفد الماء، لم نذق طعم الفاكهة لأشهر، كنا نفرح إذا وجدنا قطعة بسكويت، لكنَّ الحقيقة أنني في كل مرّة أمام هذا كنت أخجل أن أتذمر لأنني أتذكرك، فأقول بطني ليست أشرف من بطنِ رسول الله، وإن الحجر الذي لفّهُ سيدي رسول الله على بطنه أثناء جوعه لهو أعزّ على الله من الدنيا وما فيها، ليتني كنت ذلك الحجر على بطنك يا حبيبي، لقد جعلك الله عز وجلّ تمرّ بكل هذه الابتلاءات العظيمة وأنت أحب الخلق إليه من أجلنا، لأنّه سيأتي أحدٌ من أمتك بعد زمنٍ طويل مثلنا سيعاني كل هذه المآسي وسيثبت كرمى لعينيك، ولأننا البشر دائماً نبحث عن أشياء مادية محسوسة، فقد كنت بشراً مثلنا وعانيت أكثر مما عانينا وأنت أحب إلى الله منا، فقربك البشريّ منا خفّف عنا الكثير، وقد أكمل آل بيتك العظماء هذا الابتلاء الأعظم، فما قرأنا عنهم إلا سادةً صابرين وإن أجمل ما في الصبر ما قالته أمي السيدة زينب حين وقفت على دماء رأس أخيها سيدنا الحسين وأولادها وقالت بصبرها المعظم: “ما رأيت من الله إلا جميلاً “.
لقد احتفلتُ العام الماضي برفقة أطفالي يامن وكنان وأوركيدا وكرمل، ذبحنا خروفاً ابتهاجاً بمولدك ووزعناه واشترينا حلويات كثيرة ووزعناها وكانوا سعداء للغاية، وأنا أنظر لهم بفخر وأنتظر تلك اللحظة التي يكبرون بها فأحدثهم عنك، لكنّهم لم ينتظروني لأفعل هذا، بعد شهرين كانوا كلهم في حجرك وبرفقتك، إنّهم الآن معك وهذا أكثر ما يعزيني في بلائي العظيم، هل أطلب منهم أن يسلّموا لي عليك، أم أطلب منك أن تسلّم لي عليهم، لكنني سأبقي أحتفل بك معهم إلى آخر العمر، فأنا أحملهم معي في قلبي الصغير للأبد.
ستنتهي الحكاية الدنيوية يوماً ما، حين تنتهي أنفاس المرء فيها، لكن لا أحد يستطيع قتل السيرة ومحو الأثر ولو بعد مليون عام، الحمد لله عليك يا سيدي يا رسول الله، والحمد لله على كل عضو فيك وعلى كل نَفَس وعلى كل كلمة نطقتها وعلى كل ضحكة ضحكتها، وعلى رفق ترفقته وعلى إحسانٍ أحسنته، وعلى كل صبر صبرته، وعلى إيثار آثرته، وعلى كلّ وصية أوصيتها، كل ذاك كان يسندنا في طريقنا الصعب هذا، كيف لا يكون طريقا صعبا وقد خلق الله عز وجل الإنسان في كبد، لكنك تهوّن هذا الكبد يا حبيبي، كما أنّ كل مصابٍ عظيم يهون بك وكل دمعة ثقيلة تتخفف بك وكل رجاء بعيد يتحقق بك، وصلى الله عليك حبيباً قريبا مراداً طبيباً نوراً سرمدياً سارياً فينا وعلى أبيك عبد الله وعلى أمك آمنة وعلى صهرك علي وعلى ابنتك فاطمة وعلى حفيديك الحسن والحسين وعلى صحبك وأزواجك وذريتك وكل من صلّى عليك عدد الأنفاس من أول الزمان إلى آخره وسلم.