“وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى”
كانت العرب تعيش في جهل تجاه مسألة الخالق، ولهذا سُمي بعصر الجاهلية، لكن هذا لا يعني أن الجهل كان يشمل جميع جوانب الحياة، فالجانب الاجتماعي والأدبي كان زاخراً بالقيم الثقافية والمقومات الحضارية. فكيف كانت أخلاق أهل الجاهلية؟وما القيم التي خلدتها أشعارهم؟
الكرم
كان الكريم سيد قومه، يقدرونه ويجلّونه ويضعون له شأنا عظيما. هذا الاحترام الذي يقدمه المجتمع للكريم يدفع الناس إلى التخلّق بخلق الكرم، ويعزز من قيمة البذل والعطاء والسخاء بين الناس.
هذا ما جعل حاتم الطائي سيد قومه، فقد كان ينحر عشرً من الإبل كل يوم ليُطعم الناس، فيتوجه له الصغير والكبير والضعيف والفقير. وقد أتى ذكر حاتم في الأحاديث الشريفة: عن عدي بن حاتم قال «قلت لرسول الله ﷺ إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك – يعني: من أجر؟ قال: إن أباك طلب شيئاً فأصابه». أي الشهرة والذِّكر.
وأنشد الطائي عن نفسه:
“لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى .. مخافة يومًا أن يقال لئيم”
هكذا خلّد الكرم سيرة حاتم الطائي في تاريخ الذاكرة العربية، فقد اتسم بالكرم والذي يعد صفة محمودة حتى في الجاهلية.
الشجاعة
كان العربي يعيش في ظروف شاقة لا يقدر على تحملها من لا يملك الشجاعة، فقد كانت الحروب تتوالى، والموارد شحيحة، ولطالما مسهم الجوع والوعثاء والمشقة. كانوا يتعلمون قيمة الشجاعة منذ طفولتهم، فيرونها حولهم في أفعال الآباء، ويسمعون عنها في أشعار الأجداد.
ومن مظاهر شجاعة عرب الجاهلية:
- يلبون نداء من يستنجدهم
- يصبرون على ظروف البادية
- يحاربون مع حلفائهم
- حميتهم للأهل والجيران
وكان شعار العربي في الجاهلية قول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ .. بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
أتى الإسلام فقوّم هذه الشجاعة المغروسة في نفوسهم، وحوّلها إلى سمة ينصرون فيها الدين الحق ويعينون فيها المظلوم ويتبعون فيها أمر الله تبارك وتعالى، فأنتجت لنا الحضارة الإسلامية خالد بن الوليد وغيره من أبطال الأمة.
وكان النبي ﷺ رمزا في الشجاعة، فيقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله ﷺ ..) وكانت نفوس الصحابة رضوان الله عليهم مليئة بالشجاعة التي قوّمها الإسلام.
الوفاء
كان الوفاء حاضرا بين العرب في الجاهلية، فكانوا لا ينقضون العهود، ولا يحبون الغدر. لهذا كان العربي يدافع عن الحلفاء وكأنه يدافع عن نفسه، إذ أن بينهم ميثاق صريح لا ينفك، وإن غدر أحدهم أصبح مذموما بين الناس، فيصبح غدره حديث المجالس، ويتداولون اسمه في سوق (عكاظ) من باب التشهير. ومن العبارات التي راجت في الجاهلية: “إذا ذهب الوفاء نزل البلاء.”
الشعر
خلّد لنا الشعر الجاهلي مكارم الأخلاق عند العرب، من كرم وإنصاف وتضحية وعزة نفس. وقد عُرف عن الشعر العربي أنه مليء بالتصويرات الشعرية البديعة، والالتقاطات البارعة، والتي تدل على ثقافة شاعرها وعمق إطلاعه. وكان للشاعر مكانة بين قومه، فهو الذي يخلّد ذكرهم، ويدافع عنهم، ويوثّق تاريخهم، ويبرز محاسنهم.
كان الشعراء يبحثون عن منصة يلقون فيها أشعارهم، فوجدوا أن الأسواق المكتظة بالناس هي الأنسب. كانت هذه الأسواق هي المنتديات التي يُلقي فيها الشاعر فإما يأتيه المدح أو الذم.
أشهر هذه الأسواق سوق عكاظ، يقع بين مكة والطائف، كانت القبائل تتوجه إليه فتتبارز في الشعر الذي يروي أمجاد القبيلة وتاريخها وتراثها. ألقت فيه الخنساء قصائدها مرتدية السواد، وذُكر في شعر حسان بن ثابت وهو شاعر النبي ﷺ:
سأنشرُ إن حُييتُ لهم كلاماً
يُنَشَّرُ في المجامعِ من عُكاظِ.
هذه القصائد الخالدة والملتقيات الأدبية تثبت أن عرب الجاهلية لم يعيشوا دون فن أو ثقافة، بل كانوا يصنعونها ويمارسونها.
المعارك والثأر
صحيح أن عرب الجاهلية كانوا على قدر من الأخلاق، ولكن لا تخلو الحياة في الجاهلية من مساوئ مثل حب الانتقام، فقد كان الثأر حاضرا بشكل جلي في حياة العرب حينها. كان أصحاب الجاهلية يرددون أن “الثأر لا يسقط بالتقادم”، وهذا ما يزيد من الحروب والمعارك ويجعلها تستمر لسنوات وسنوات. منها حرب البسوس التي استمرت لأكثر من ٤٠ سنة!
الخاتمة
صحيح أن عصر ما قبل الإسلام هو عصر الجاهلية، انتشر فيه التعصب المذموم والعقائد الباطلة والظلم الجائر، لكن هذا لا يعني أن حياة عرب الجاهلية في سواد محض، بل فيها الشر وفيها الخير، وتجلّت فيها مفاهيم أخلاقية مثل الصدق والأمانة والوفاء والشجاعة وحسن الجوار. كان مجتمع الجاهلية مجتمعاً حيوياً فيه أخلاق، وأتى النبي ﷺ ليتمم مكارم هذه الأخلاق، ويصحح عقيدتهم، ويرفع منهم، ويغيّر تاريخهم إلى الأبد.