أسفار

المحطة الأخيرة في الفيتنام: إلى “كن تاه”

أغسطس 17, 2024

المحطة الأخيرة في الفيتنام: إلى “كن تاه”

لقد جعلتني هذه الرحلة أكتشف نواحٍ أخرى في شخصيتي؛ إن السفر إلى هذا العالم المدهش عبث بكياني وأضاف طعماً آخر للحياة..


وصلنا إلى كن تاه.. وهكذا أكون قد جبت تقريبا كل جزء في الفيتنام بشكلٍ متسلسل حيث انطلقت الرحلة في العاصمة هانوي شمالا لتستمر إلى أقصى الجنوب.. “كن تاه” يا أصدقاء هي إحدى أكبر مدن فيتنام في دلتا ميكونغ بمناخ استوائي وموسمي خلق من ضفافها جنة للغابات الوارفة الظلال، أما وسط المدينة فيوجد ازدحام شديد جدا للأسواق الشعبية وللسياح الذين يأتون إليها من جميع أنحاء العالم.

 

طعام الفيتنام كما ذكرت لكم سابقاً لذيذ جدا وصحي، لكنني قررت في “كن تاه” بعدما قارب الشهر من تناولي له تغيير وجبتي إلى وجبةٍ غيرِ صحية اليوم. وفي هذه المدينة العجيبة في إحدى الضفاف الهاربة إلى أقصى الجنوب جلست في زاوية أحد المطاعم الفرنسية الصغيرة وسط ازدحام مدهش وعجيب أمام ناظري. وأنا الآن أحمد الله على فطيرة الجبن المليئة بالكربوهيدرات هذه بعدما أرسلَ رفاق الرحلة صوراً من تناولهم لأفعى كوبرا في مطعمٍ آخر.

 

آهٍ كم اتمنى لو ترأفِينَ بحالِي وتقفين في صف منظمٍ تنتظرين دوركِ في أدبٍ للدخولِ ‚ هذا فقط حتّى أستوعبكِ زيتها المشاعر المختلطة السريعة. الكثير منكِ يقفز إلى أعماقِي بسرعةٍ عجيبة فتختلطِينَ ببعضِك البعض لأصاب أنا بالحيرة والذهول.


متى يستيقظ هذا الشعب العجيب؟ متى يرمي بشباكه إلى النهر ومتى يغري الأسماك بالاقتراب؟! كنت نعسانة ومتعجبةً.. في اليوم الثاني لنا في “كن تاه”.. تساءلت عن هذا العالم الحي والنشيط. كانت الساعة تشير إلى الخامسةِ صباحاً حين تمشينا وسط السوق الشعبي في طريقنا إلى المرفأ ولقد كان مزدحماً بالباعة والمشترين.


لم أتحمل روائح السمك المجفف حولي فأسرعتُ الخطى وتساءلت كيف يتحملون ذلك، إنهم يجففون جميع أنواع السمك الكبير منها والصغير ثم يأكلونها كما نأكل نحن المكسرات أو رقائق البطاطس. حمدت الله على وصولنا للقارب يا أصدقاء، ولاحظت حركة هائلة للسيرِ في النهر رغم أن الوقت مبكر. إن السوق كاي رانغ العائم- واحد من أكثر الأسواق المزدحمة في دلتا نهر ميكونغ. وهو شبيه بالأسواق على الأرض ولكنّ الباعة يختارون القوارب أوالزوارق كوسيلة لتبادُل وبيع السلع.


كانت تجربة فريدة وممتعة. وحكى لي دليلنا تانغ أنه بسبب إنشاء الكثير من الجسور والطرقات الرابطة بين الجزر وبسبب انشاء أسواق اليابسة فقد خف الاقبال في السنوات الاخيرة على السوق العائم إذ لم يعد الناس يحتاجون الذهاب بالقارب واحضار الفواكه زو بيعها.


وفي طريقِ عودتنا وكما حال معظم القوارب والمطاعم والمقاهي في هذه المنطقة، فإنهم يغنون على طريقة الكاريوكي. فأصرّ الفريق بعد غنائهم ان اغني شيئاً عربيا، ولكني انحرجت كثيراً، والمضحك انني ان كنتُ اذكر لحناً او اغنية ما فستكون حتماً اغاني الكرتون. فماذا افعل بحالي يا اصدقاء؟ هل اغني لهم ماروكو الصغيرة ام سالي ام ساندي بيل؟ عموماً لا احد بين هؤلاء يفهم مضمون أو معنى الكلمات.


وفيمَ كنت أفكر إذ بي ألمح في أحد القوارب أمامنا فتاة فيتنامية رائعة تبدو ممسكة بيدِ طفلٍ صغيرٍ ربما كان في الثانية او الثالثة من عمره وكانا ينظران إلينا فيما كان قاربنا يبتعد. تذكرتُ في الحال اغنية الكرتون الاحب الى قلبي أنا وأخي، وبدأت انشدها، وتغير حالي من شعورٍ بالفكاهة والاحراج الى تأثرٍ عميق..

 

لا تنس أخاك؛ ترعاه يداك..

 

لا أعرف كيف تسربت هذه العبارة إلى أعماقي لتفتح باباً من الذكريات؛ وعبر شريطٍ خاطفٍ ظهرَ فيهِ أخي بوجهه الملائكي أمامي وهو يلهو ويلعب بسعادةٍ أمام بيتنا في الناظور، وأنا بجانبهِ واقفة احرسه كالرقيبِ الأمين وانتبه لحركاته خوفاً أن يقع أو يصيبه مكروه.


أخي الآن تجاوز الثلاثين لكنني لا أستطيع إلاّ ان أراه في تلك الصورة وذلك المشهدِ تحديداً. وبقربِ السوق العائم في ديلتا ميكونج العجيبة سرى طيفٌ من الذكريات وعزف قلبي اوتاراً منَ الشوقِ والحنينِ تمنيتُ لو يسمعها أخي صاحب الوجهِ الملائكي الذي لا يكبر في قلبي وأن يصله شوقي ولو من بعيد.


المشهد الأخير من هو شي منه/ سايغون


أخذتني الأجواء الماطرة في الليلةِ الأخيرة إلى روحِ سايغون؛ وإلى كل جزء زرته وتعرفت عليه في هذا البلد العظيم. مضيت في ليلتي الأخيرة أتمشى في شوارع سايغون الساحرة. كنت أشعر بشيء من الحزن والألم وقد آن موعد الرحيل’ وشعرت أن وعدا قويا نبت في قلبي اني يوما ما سأعود الى لكن وعداً جديدا أضاء خاطري. وعدٌ كالذي تركت في كل زاويةٍ زرتها في هذا البلد العظيم.


سأعودُ مجدداً.. سأعودُ الى هذا العالم الرائعِ الذي تجانست فيهِ جميع القيم النبيلة. وأمام مفترق الطرق ودعت أصدقائي.. شكراً على الذكرياتِ التي ستتدفقُ الى نهايةِ العمرِ في قلبي.. وشكراً لأننا كنا مهرجاناً شعبياًّ متناغماً ومذهلاً..


بعد الرحيل


ذهبت بعد استيقاظي مباشرةً إلى النافذة واستغربت لوهلةٍ من اختلافِ المناظر حولي.. أين أنتِ يا أشجار جوز الهندِ العزيزة.. أنا أفتقدكِ جداًّ.. ورغم وصولي قبل ساعات، ورغم التعب الشديد إلاَّ أنّ مشاعر الشوق قد تمكنت منِّي.


نظرتُ إلى الساعةِ أمامي، إنها الثانية صباحاً يا أصدقاء. مازلتُ مبرمجةً على التوقيتِ الفيتنامي. شعرت بالرفقِ من أجلِ هذه الساعة التي تنظم حياتي العملية والاجتماعية المعتادة. فقلت مبتسمةً لها عودي.. عودي أيتها العقارب بلحظاتكِ وثوانيكِ بضغوطكِ وفصولك إلى منظومتِي القديمة!


وما كدتُ ألتفتُ حتى سمعت صوت وصولِ رسالة نصية على هاتفي، إنها صديقتي آنّا والتي اكملت الرحلةَ الى كمبوديا أرسلت تحاول بصورِ يومياتها وبرسالتها الرقيقة استدراجَ مشاعر الندم عندي لأنني رغم محاولات الاقناع الكثيرة لم اذهب معها، وقد شرحت الاسبابَ سابقاً يا أصدقاء.


ضحكتُ وأنا أقرأ سطور الاعجاب التي كتبتها واصفة اياي بالشجاعة والقدوة وتذكرت استغرابي أيضا من أعضاء المجموعة الآخرين الذي عبروا عن تقديرهم وإعجابهم بشخصيتي ووجودي بينهم. هل أنا المقصودة؟ يالَتواضعكم الشديد! جاوبت صديقتي آنا الجميلة متمنيةً لها رحلةً ممتعة.


ثم ذهبت أفتح حقائبي محاولةً الامساك بالذكريات واللحظات الرائعة التي امتلأت بها في فيتنام. لقد اشتقت لتلك البلاد المدهشة.. ولا أعرف لماذا تذكرت الآن حديثاً قديماً مع صديق ألماني تجاوز الثمانين من عمره.. وقد كان في شبابه عاشقا للسفر حول العالم. قال لي يوماً بالحرف: أردت ان أبقى طفلاً، طفلاً يحتفظ بمشاعر الدهشة وحبِّ الحياة لذلك اخترت أن أسافر حول العالم.


وبمشاعرِ الدهشة والسعادة أشكر كلّ من رافقني في هذه الرحلة..

وتستمر الرحلة..


شارك