كم بلغ التعداد؟ ألفا؟! ثم نُتبعه بدعواتٍ بالرحمة والفرج.. هكذا صرنا نستقبل أخبار غزة كَرُكْنٍ قارّ كما لو أنها نشرةٌ لإحصاء عدد القتلى يتخللها حديثٌ عن مقاطع أكشن يقوم به أبطالٌ خارقون! ثم سرعان ما تتبخّر تلك المرارةُ وذلك الألمُ الذي أَضْحى مقياسا يمنُّ به البعضُ ويُذكِّر به الدعاة، وكابوسًا نتمنى زواله سريعا لنتفرّغ للاستمتاع بحياتنا البائسة وأحلامنا الرخيصة!
أرأيتم ما أسوأ الاعتياد؟! فهل نجحنا في تصوير ما يقاسيه إخواننا في غزة؟ لا أظن. وهل نجحنا بتصوُّره على حقيقتهِ في عقولنا؟ لا أعتقد . فكيف بهم وقد عاشوا ويعيشون في كلِّ يومٍ ما فشلنا بتصويره وتصوّره. لا التأمل في الواقع كافٍ، ولا الخيال مُسعِف.. ولا الكلمات تطيق! غزة وفلسطين عموما جرحٌ غائر لا يندمل بمجرد التعاطف والدعاء، ولا يلتئم بتعاقب الحِقب عليه بل يزدادُ غَـوْرًا ونزفا.
ليس من السهل أن تكتب أو تنشر وسط رائحة الموت الذي يعصف بأهلك.. نعم أهلك.. فما نُقِضت عُرانا إلا لما سقطنا في ذلك الفخ القاتل والفتنة التي جعلتك تظن أنك صاحبُ ضميرٍ يتعاطف مع ضعيفٍ مسكين يتعرض لظلم مبين! تلك الأرض أرضك.. وذلك العرض عرضك، وإن لم تحمل وثيقة باسمك فهي تحمل أمرا من ربك: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) نعم ليس من السهل أن تكتب وهم يكتبون أسماءهم فوق الأذرع والأبدان لتحفظهم أن يصيروا مجرد أرقامٍ مجهولة في سجلِّ الموت المرقوم ودفاتر النسيان.. أو ليدلّلوا عليها من يجمعهم بقيّةً من أحبّةٍ متقابلين.. ولو أشلاء!
لكنّنا نكتب وننشر أسماءهم لا أسماءنا.. ونُعلي ذكرهم لا ذكرنا ليعلموا أنه ما حالَ بيننا وبينهم أن بَعُدت علينا الشُقّة فثبّطتنا أو غَلُبت علينا الفُرقة فأعمتنا وإنما هي قضيةٌ واحدة لا غير.. ومعركةٌ فاصلة في وجه أصل الشرّ ولا ضير فما دونها اشتغالٌ عن الأصل بالفرع وعن المتن بالهامش: لا خلاص لنا أو لهم إلا بخلع ثوب الخزي والعار كله.. الجاثم فوق صدورنا والكاتم للأنفاس برقعه وأسماله أو بزخرفه ونقوشه وكل أوهامه! وإلا سنبقى بين دوامة الذلّ ومستنقع الحلّ كحمارِ الرحى ندورُ والمكانُ الذي ارتحلنا إليه هو نفسه الذي ارتحلنا عنه!
نعم أنا أستحيي من الحديث عن غزة. فما أسهلَ أنْ تتحدّثَ عن الشجاعةِ وأنت بعيدٌ عن أرض المعركة. وما أيسرَ حديثك عن الصبرِ وأنت معافى، تَرْفَلُ بين النِعم والسِّتر.. ولم تكتوِ بنيران الحرب الحَرَّى إذا هَبّتْ.. وتَلظّتْ بالأحزان وَقودًا! أمّا هم فيخرج علينا صغيرُهم بقلبٍ بحجمِ الكفّ بل هوَ بعضهُ.. ولا أدري صدقا كيفَ يحمل به جبالا ثم يزأر فتخرج الكلمات من صدره زلزالا، فإذا هو العظيم ونحن نتعلم منه صغارا!
فهناك تعلّموا من الموت رسْمَ اليقين بسمةً تعلو وجوههم.. وتعلّموا من دفن الشهيد كيف يستنبتون الدّمَ فَيَـنْبُتُ منه بدل الحُرِّ أحرارًا وبدل الغصن القصيفِ واحاتٍ وغاباتٍ وأشجارا!
هناك يُزْرَعُ الألمُ في كل شبرٍ من حولهم فيخرج منه العزمُ، ويُدفَنُ الحزنُ فيُـثمِر لهم مجدًا ويجدّد لهم عهدا لا يسقط بالتقادم.. فلا يخبو جمره بل يتعاظم. أم كيف ينسى عاشِقٌ الشوقُ دينُهُ، ووَجْدُهُ يتفاقم؟! يهواها وإن هبّ نفحُ الموتِ استلذّه نسيمًا لا يرومُ رَدَّه، وأملاً يقوّيه اليقينُ ويُمِدّه. فهيهاتَ أن يلينَ عزمُه أو يخيبَ قصدُه. ومن صحِب الحقَّ كان الحقُّ سندَه والنصرُ وعدَه! لا شك أنّ الأسئلةَ كثيرةٌ وأنّ الإجابات التي تراودنا تـقْـتاتُ ربما من الألمِ الذي يُحاصرنا والغُصّةِ التي تخنقنا ونحن نشاهد تلك المذابح المُتلفزة وتلك العيون العاجزة تحدّق بالسماء حيث تحوم أسرابُ الموت..
وحيث تُودِع القلوبُ أحبابَها والحناجرُ دعواتها، فكل ما في الأرض يبدو من حولهم قاتلا أو خاذلا، ولا أمل لهم إلا في السماء.. والسماءُ لا لُبس فيها ولا كذِبَ؛ إما زرقاء صافية بشمسٍ لا تحجبها الأعلامُ، وإما غائمة رحمةً أو غضَبا! لا قِمم فيها ولا ربطات عنق منمّقة ولا تيجان كاذبة ولا رُتب زائفة ولا خُطب رنانة ولا أيادٍ مرتعشة ولا تحفظات ولا حسابات ولا محاور ولا مَسِيرات ولا تحكمها حدودٌ بائسة.. والسماء تبدو للغرِّ الغافل شاهدةً ساكنة أو مجرد فراغٍ تجوبه سحبٌ عابرة.. في السماء يختبئ أولئك السماويون.. الصابرون والمرابطون..
هم من ترابٍ مثلنا لكنهم تعلّقوا بالسماء وتلحّفوا بسماها فإذا هم به جميعا مُلثَّمون، وتماهوا بعُلاها فإذا هم به جميعا الأعلون! أسقطوا كل حساباتنا.. حسابات الأرض وعهود الأرض وقيود الأرض.. لأن تلك الأرض المباركة ليست لنا أو لهم .. تلك الأرضُ للسماء.. وللسماءِ كلمتُها… وعبدٌ مأمورٌ بايعها!