أسفار
وصف الكاتب الفيتنامي بول فو بونغ في كتابه “هانوي، مدينة الذكريات المختلطة” قائلاً: “هانوي، مدينة الروح والذاكرة، حيث يتلاقى القديم بالجديد في رقصة متجددة. في كل شارع تمر عليه، تشعر وكأنك تسافر عبر الزمن، بين الماضي العريق والحاضر المتلألئ بالحيوية. هذه المدينة تحمل في طياتها قصصاً لا تُنسى ترويها جدرانها وأزقتها، وتبقى محفورة في ذاكرة كل من يعبر عتباتها”.
بعد رحلة دامت أكثر من 12 ساعة، وصلت أخيراً إلى هانوي، عاصمة فيتنام، التي يبلغ عدد سكانها 9 ملايين نسمة. هانوي هي واحدة من أقدم المدن في فيتنام، وتمتاز بتاريخ ثري وثقافة متنوعة. تأسست المدينة رسمياً كعاصمة لفيتنام في القرن العاشر الميلادي، وهي مركز للفنون والثقافة والتعليم في البلاد. تتميز بمجموعة متنوعة من المعالم السياحية والتاريخية، بما في ذلك معبد الأدب ومعبد الجدير وجسر لونج بينغ. وتشتهر هانوي بمأكولاتها الشهية والمتنوعة، حيث يمكن للزوار تذوق المأكولات الشعبية الفيتنامية مثل المعكرونة والفراولة الحارة والفراولة الرقيقة والسمك المقلي بالصلصة الحلوة والحارة. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر هانوي مركزاً تجارياً حيوياً، حيث يمكن للزوار التمتع بالتسوق في الأسواق المحلية التقليدية مثل سوق دونغ زوان وسوق اللؤلؤ والسوق الليلي في القرية القديمة، حيث يمكن العثور على العديد من الهدايا التذكارية والسلع اليدوية الفيتنامية الجميلة.
أربكت جسدي الرطوبة العالية جداً وكنت أشعر بتعب شديد كاد أن يحرمني من الخروج في أول يوم، لكنني كنت مصممة على عدم السماح لأي ظرف كان أن يحرمني من أي لحظة متعة أو استكشاف في فيتنام. وخلال تجولنا في هانوي، لاحظنا شوارعها المزدحمة وعالم الدراجات النارية العجيب. حكى لنا توانج أن كل شخص في هانوي يمتلك دراجة أو اثنتين على الأقل. زرنا بحيرة هوان كيم الساحرة وتوجهنا إلى مجمع الأدب، الذي يُعتبر مثالاً نادراً على العمارة الفيتنامية التقليدية المحفوظة جيداً. وقد تأسس في عام 1070 من قبل الإمبراطور لي ثانه تونغ. لي تونغ هو الإمبراطور الأخير للصين من سلالة تشين، حكم بين عامي 1908 و1912. كانت حقبته مليئة بالتحديات والصراعات الداخلية والخارجية، وانتهت بسقوط الإمبراطورية وتأسيس الجمهورية الصينية.
في كل شارع من شوارع هانوي، وجدنا أكشاكاً ومطاعم شعبية تنبعث منها روائح الطعام والتوابل اللذيذة التي تجذب المارة للشراء. تناولنا وجبة في مطعم تقليدي عتيق، وتذوقنا أكلتهم الشهيرة، المعكرونة، التي تُعد وجبة الإفطار الأساسية لهم. كانت لذيذة ومشبعة. وبعد ذلك جلسنا في إحدى الزوايا وطلبنا قهوة البيض المعروفة جداً، والتي تُحضر بالبيض النيء والعسل، لكنني كنت الوحيدة التي لم تستطع شربها بمجرد التفكير في البيض المخفوق. وبالمناسبة، عملة فيتنام جعلتني مليونيرة بين ليلة وضحاها، حيث أن الدونغ الفيتنامي من بين العملات الأكثر انخفاضاً في العالم. فإذا ذهبت إلى محل بقالة، فستحتاج إلى بضعة ملايين لشراء بعض الحلويات.
اكتشفت أن هانوي، إلى جانب دورها السياسي الكبير، لها جانب آخر يعبر عن الجمال والسحر، فهي موطن للعديد من البحيرات والمنتزهات مثل بحيرة “ويست ليك” وحديقة “با با” الوطنية، والتي توفر مواقع رائعة للاسترخاء والتمتع بجمال الطبيعة. لعبت هانوي دوراً مهماً في النضال من أجل الاستقلال، خاصة خلال فترة الاستعمار الفرنسي وحرب فيتنام، حيث يمكن للزوار التعرف على هذا الجانب من التاريخ في متحف “السجن القديم” ومتحف “جيش الشعب الفيتنامي”.
قال يوماً العم اللطيف هو: “كن كالبحر، صامتاً وعميقاً، لا يُظهر سوى جزء صغير من جماله للعالم”، لقد قرأت كثيراً عن العم هو وحقبته، ولم يكن ممكناً التعرف إلى هذه الحقبة في فيتنام إلا بالذهاب إلى هذا العالم وتخصيص يوم كامل لهذا الجانب بالذات. ورغم عدم لقائنا به شخصياً، إلا أننا وجدنا روحه تنعكس في كل مكان، على لافتات تزين الشوارع وفي كل كلمة فخر يحكيها أي فيتنامي عن تاريخ بلاده. يُلقب العم هو هنا بالعم اللطيف.
كان العم هو رمزاً للتضحية والتفاني في خدمة وطنه، حيث قضى حياته في بيته الخشبي البسيط، لكنه لم يكتف بذلك، بل استمر في العمل بنفس الوتيرة والتواضع حتى بعد استلامه لمناصب عليا. لقد بقي محافظاً على قيمه ومبادئه التي عاش وقاوم لأجلها. كان يحظى بحب واحترام الناس في جميع أنحاء البلاد، وكانت قصته مصدر إلهام للجيل الجديد، حيث يتذكرون دائماً عطاياه وتضحياته من أجل الوطن.
حين ذهبنا في الصباح الباكر إلى ساحة هوشي منه، شعرنا بفرحة وشموخ جميع الفئات العمرية من الزوار الفيتناميين. هذه الساحة المهمة تضم الأعمدة السياسية الرئيسية للبلاد، بدءاً من القصر الرئاسي وصولاً إلى البرلمان وضريح العم اللطيف. وتعتبر الساحة مركزاً للفعاليات السياسية والثقافية، حيث يتجمع فيها الناس للتعبير عن آرائهم ومطالبهم، كما تشهد العديد من الاحتفالات والمناسبات الوطنية والثقافية التي تجمع الشعب الفيتنامي. وبعد الكثير من المعرفة، غادرنا الساحة لنأخذ جولة بالكوتشا التقليدي عبر طرقات هانوي وردهاتها العتيقة.
وبعد الظهر، استمتعنا بوجبة رائعة في مطعم جميل للسمك وسط هانوي، ثم قررنا شراء تذاكر لحضور عرض الماريونيت المائي التقليدي. يعتبر مسرح الدمى أو الماريونيت في فيتنام واحدًا من أهم المعالم الثقافية والفنية في البلاد، حيث يعود تاريخه إلى قرون عديدة مضت. ويقدم عرض الماريونيت المائي فرصة فريدة للجمهور لاستكشاف تقاليد وثقافة الشعب الفيتنامي من خلال العروض المبهرة والمليئة بالحركة والموسيقى.
وتعتمد تقنية الماريونيت المائي على استخدام دُمى مصنوعة يدويًا تتحرك فوق سطح الماء، ويتم التحكم في حركتها وتحركاتها من خلال أشخاص يختبئون خلف الستار. يتم تصميم الدمى بعناية فائقة لتعبر عن شخصيات مختلفة ولتوفير تجربة ممتعة ومثيرة للجمهور. كنت في غاية التأثر والسعادة أثناء العرض وقد كانت الأسطورة تحكي جانباً تاريخياً من حرب فيتنام. كانت هذه إحدى التجارب الرائعة والتي لا تُنسى في هانوي.