اقتصاد
أعلنت اللجنة المُكلّفة من شؤون رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر 2025 إلغاء البلاغ رقم 10 مع تعديل بعض البنود في البلاغين 16 و17 بهدف تسهيل إقامة المنشآت الصناعية خارج المدن والمناطق الصناعية. جاء ذلك خلال اجتماع ترأسه معاون وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية المهندس محمد ياسين حورية، وبحضور معاون وزير الإدارة المحلية المهندس محمد ياسر غزال ومعاون وزير الزراعة المهندس تمام حمود، في سياق مراجعة حكومية لأبرز العوائق التنظيمية أمام الاستثمار الصناعي.
يمثّل هذا التطوّر انتقالاً من نهج “المنع العام” إلى “التنظيم المشروط” أيّ السماح بالترخيص خارج المدن الصناعية ضمن ضوابط موقعية وبيئية وخدمية. وبعد أيام، ذكرت تصريحات رسمية أنّ العمل بلغ مراحله النهائية لإصدار قرار موحّد يجمع الإلغاءات والتعديلات في صيغةٍ واحدة، تمهيداً لتطبيق معايير تفصيلية لمواقع وأثر المنشآت خارج المدن الصناعية. بذلك تتحوّل القضية من نقاشٍ إجرائي إلى تحوّل في الفلسفة التنظيمية ينعكس مباشرةً على كلفة التأسيس والتموضع الجغرافي للإنتاج، وعلى عدالة المنافسة بين الداخلين في المدن الصناعية وخارجها.
الإطار التاريخي للقرار: من البلاغ 10 إلى مسار المراجعة
بدأت القصة مع البلاغ رقم 10 لعام 2018 الذي تبنّى نهج “المنع العام” لترخيص المنشآت الصناعية خارج المدن والمناطق الصناعية وخارج المخططات التنظيمية، ومعه رُوِّج لفكرة حصر النشاط داخل مساحات مرفّقة بالبنى التحتية والخدمات لتقليل التلوث العشوائي وفوضى التوسع العمراني. لكن عملياً، سرعان ما ظهرت آثار جانبية، وهي تعثّر مشاريع صغيرة ومتوسطة في بلداتٍ لا تملك مدناً صناعية جاهزة، وارتفاع كلفة الدخول والاستقرار، وازدياد الاعتماد على حلول مؤقتة في الهوامش.
بين 2019 و2022 تكرّست نتائج هذا المنع في تباطؤ منح التراخيص الجديدة خارج المدن الصناعية، وضغط على المناطق المجهزة التي لم تكن قادرة على الاستيعاب السريع، واتّساع فجوة الكلفة بين من يعمل داخل المدن الصناعية، ومن يعمل خارجها في أوضاعٍ ملتبسة قانونياً. في المقابل، لم تختفِ العشوائية كلّياً؛ إذ دفعت القيود جزءاً من النشاط إلى الظلّ، أو إلى مواقع غير مثالية من ناحية البيئة والخدمات.
مع عام 2023 تصاعدت ملاحظات غرف الصناعة والقطاع الخاص؛ حيث طُرحت انتقادات مفادها أنّ المنع الشامل لم يعالج جذور المشكلة، وأنّه حجب فرصاً استثمارية في محافظاتٍ تفتقر لمناطق صناعية جاهزة. جرى الدفع نحو مراجعة البلاغات ذات الصلة، وعلى رأسها البلاغ 10 ومعه 16 و17، بغرض الانتقال من “المنع” إلى ” التنظيم المنضبط”.
خلال 2024 تكثّفت اللقاءات بين الجهات الحكومية وغرف الصناعة؛ حيث اتّضح اتجاهٌ عام نحو صياغة إطار واحد يُعيد تعريف الشروط خارج المدن الصناعية مثل مسافات العزل، واشتراطات بيئية، ومعايير للخدمات والطرق، بما يضمن تنافسية الإنتاج، ويحدّ من الأثر السلبي على المجتمعات المحلية.
في أيلول/ سبتمبر 2025 أعلنت اللجنة المكلّفة من شؤون رئاسة مجلس الوزراء إلغاء البلاغ 10 ومراجعة 16 و17، إيذاناً بتحوّل تنظيميّ نوعي. وبعدها بأيام، برز الحديث عن قرار موحّد يجمع التعديلات والإلغاءات في صيغةٍ واحدة واضحة، لينتقل الملف من حالة بلاغاتٍ متفرّقة إلى سياسةٍ تنظيمية قابلة للتطبيق والقياس. بهذا، تبدّل السؤال المركزي من “هل نسمح أم لا؟” إلى “كيف نسمح؟ وبأيّ ضوابط تُحقّق التوازن بين التنافسية وحماية البيئة والمال العام؟”.
ما الإيجابيات المتوقعة من تنفيذ الأمر؟
يفتح الانتقال من نهج المنع العام إلى التنظيم بضوابط نافذة عملية لخفض حواجز الدخول أمام المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولا سيما في المحافظات التي تفتقر إلى مدنٍ صناعية جاهزة أو طاقة استيعابية كافية. فبدلاً من دفع النشاط إلى الظلّ، يوفّر السماح المشروط مساراً قانونياً واضحاً يختصر زمن التأسيس، ويقلّل كلفة الامتثال، ويحوّل الرقابة من مطاردة المخالفات إلى ضبط المعايير منذ المنبع عبر اشتراطات موقعية وبيئية وخدمية قابلة للقياس.
كما يتيح هذا التحوّل تقريب الصناعات، خصوصاً الزراعية والغذائية والحِرَفية، من مصادر دخلها وأسواقها المحلية، بما يخفض فاقد النقل والتخزين، ويرفع مرونة سلاسل التوريد. وبالتوازي، يخفّ الضغط عن المدن الصناعية، ويُمنح القائم منها وقتاً لرفع جاهزيته دون خنق الطلب الاستثماري الراهن، مع إبقاء الأنشطة الأعلى خطورة داخل الحواضن المجهزة وتوجيه الأنشطة الأخف إلى أحزمةٍ خارجية منظّمة.
وتنعكس هذه الهندسة المكانية في النهاية تنويعاً للجغرافيا الاقتصادية وخلقاً لفرص عمل محلية تقلّل الهجرة نحو المراكز الحضرية، فيما تعزّز الرخص النظامية الموثقة جدارة المشروعات الائتمانية وقدرتها على النفاذ إلى التمويل والتأمين. الأهمّ أنّ وجود معايير موحّدة ومدد ترخيص قطعية يتيح قياس أثر السياسة بصورة دورية مثل عدد التراخيص، والالتزام البيئي، ومتوسط كلفة التأسيس وفرص العمل، وبالتالي تحسين الضوابط ديناميكياً وفق بيانات فعلية لا انطباعات عامة.
وفي هذا الإطار يقول دكتور الاقتصاد ياسر الحسين “توجيه الصناعات إلى خارج المدن، ضمن ضوابط موقعية وبيئية وخدمية، يخفّف ضغط التمدّد الصناعي داخل المدن، ويحفّز التنمية الإقليمية واللامركزية، ويخفّض كلفة الأراضي والتهيئة، ويوفّر مرونة أعلى لاختيار الموقع وفق طبيعة الصناعة وكلف النقل والعمالة، ويخفّف الزحام والضغط عن البنية التحتية الحضرية”.
السلبيات والمخاطر.
رغم الوعود التي يحملها الانتقال إلى “التنظيم بضوابط”، يبقى الوجه الآخر محكوماً بجملة مخاطر إذا لم تتوافر أدوات إنفاذ فعّالة وقدرات رقابية كافية. فالانفتاح غير المنضبط قد يُفضي إلى “عشوائية مُقنّنة” تنتشر فيها منشآت خارج المدن الصناعية بانتقاء مواقع هشّة من الناحية البيئية أو الخدمية، مع ما يرافق ذلك من مخاطر تلوّث للهواء والمياه السطحية والجوفية، وتعدٍّ على الأراضي الزراعية أو أحزمة الحراج.
كما أن تفتيت البنية التحتية مثل الكهرباء والطرقات والمياه والصرف الصحي على نقاط متناثرة سيرفع الكلفة الحدّية على الخزينة، ويخلق تفاوتاً في جودة الخدمات، فيما تتداخل الصلاحيات بين البلديات والمحافظات والوزارات على نحوٍ يزيد زمن المعاملة، ويُربك المستثمر والجهة المنفّذة معاً. ويُضاف إلى ذلك خطر اختلال عدالة المنافسة مثل منشآت داخل المدن الصناعية تتحمّل رسوم تجهيز وضوابط أشد، مقابل منافسين خارجها بكلف أقل إن لم تُعد هندسة التعريفات والحوافز بما يزيل الفوارق غير المشروعة.
فوق ذلك، قد تدفع التوقعات التنظيمية أسعار الأراضي في الأحزمة الطرفية إلى المضاربات ورفع تكاليف الدخول على الصناعات المستهدفة أصلاً بالتيسير، بينما يفاقم ضعف الشفافية احتمال نشوء قنوات استثناء و”ترخيص انتقائي” يلتهم غاية الإصلاح من جذورها. أخيراً، إن لم تقرن الضوابط بآليات تظلّم واضحة ومشاركة مجتمعية محلية، فستتزايد الاحتكاكات مع السكان والبلديات، وتتراكم النزاعات القانونية التي تجمّد الاستثمار، وتحوّل الإصلاح إلى عبءٍ إداري جديد بدل أن يكون رافعة إنتاجية.
وفي هذا الشأن يضيف دكتور الاقتصاد ياسر الحسين “ورغم مزايا التوسّع الصناعي خارج المدن، تبرز سلبيات أهمها كلفة إيصال البنية التحتية (كهرباء، مياه، صرف، طرق، اتصالات) إلى المواقع البعيدة، واحتمالات الأثر البيئي والارتباك التخطيطي إذا غابت الضوابط، وضعف المراقبة والالتزام بالمعايير، كما يمكن أن ترتفع كلفة النقل للمواد والمنتجات والقوى العاملة، وتظهر آثار سلبية على المدن، إضافةً إلى مخاطر إنشاء معامل مخالفة للمواصفات المطلوبة”.
تفصيلات تطبيقية وحدود الحوكمة.
تتبدّى جدّية التحوّل عندما تنتقل الضوابط من عموميات حسنة النيّة إلى مصفوفة تطبيق دقيقة تُغلق ثغرات التأويل. البداية تكمن بخارطة مواقع موجّهة تحدّد أحزمةً خارج المخططات التنظيمية صالحة للأنشطة الأقل خطورة، مع مسافات عزل إجبارية عن التجمعات السكنية والمجاري المائية ومناطق الزراعة الكثيفة. يلي ذلك سُلّمٌ بيئي رباعي الدرجات يربط نوع النشاط باشتراطاتٍ مسبقة تبدأ من دراسة أثر إلزامية، إلى محطات معالجة، مروراً بسقوف انبعاثات وحدود ضجيج، وصولاً إلى آلية إغلاق فوري عند المخالفة الجسيمة.
على المستوى الإجرائي، تختزل نقاط التماس في نافذة رقمية موحّدة بمدد قطعية للترخيص والاعتراض، وتستبدل الرقابة الورقية برقابة ميدانية ذكية تسجَّل على منصة مفتوحة البيانات بحيث تُرى نتائج الزيارات وقراءات الأثر البيئي للجمهور والبلديات وغرف الصناعة. ولتصحيح اختلال المنافسة، تعاد هيكلة تعريفات الخدمات (كهرباء، مياه، صرف، طرق) وفق مبدأ “المستفيد يدفع” مع حوافز انتقال طوعية نحو المدن الصناعية للحالات التي تتنامى خطورتها أو طاقتها الإنتاجية.
أخيراً، تربط السياسة بمؤشرات أداء نصف سنوية معلَنة مثل عدد التراخيص الجديدة، وزمن الحصول على الموافقة، ونسبة الالتزام البيئي، الشكاوى المجتمعية، ومتوسط كلفة التأسيس كي لا تبقى الضوابط نصوصاً معزولة، بل عقداً اجتماعياً واقتصادياً تحاسَب عليه الجهة المنفِّذة مثلما يحاسَب المستثمر.
وفي هذا الإطار يقول دكتور الاقتصاد ياسر الحسين “نجاح التوجّه يقتضي حزمة ضوابط متكاملة تتمثّل بمعايير موقعية واضحة تبعد المنشآت عن السكن والزراعة والمناطق المحمية، وتقييم أثر بيئي اجتماعي مُلزم مع خطط تخفيف ورقابة دورية، وضرورة ربط الترخيص بتوفّر وتمويل البنية التحتية (كهرباء، مياه، صرف، طرق، اتصالات) مسبقاً؛ وتبسيط الإجراءات عبر نافذة موحّدة؛ ومتابعة ما بعد الترخيص ومحاسبة للمخالفين، وطرح حلول نقل ولوجستيات للقوى العاملة، وربما سكن قريب عند الحاجة، مع تقديم حوافز أو منصات نقل مشتركة لمعادلة كلفة البُعد، مع الاهتمام باتساق صارم للتخطيط الحضري، وإطار قانوني موحّد ومحدّث، يشمل تعديل البلاغين 16 و17، يحدّد الحقوق والواجبات ويسدّ الثغرات”.
ويضيف الحسين “لقياس أثر القرار في عامه الأول، يجب رصد عدد التراخيص الجديدة خارج المدن، وقيمة الاستثمارات المصرّح بها، ومتوسط زمن إنجاز معاملات الترخيص قبل/ بعد القرار، ونسبة التراخيص التي بدأت الإنتاج، ومؤشرات الالتزام البيئي عبر تقارير تقييم الأثر والمخالفات المُعالجة، والوظائف المستحدثة وتوزيعها الجغرافي، وكلفة تمديد البنية التحتية والخدمات، ونشوء خدمات النقل واللوجستيات المصاحبة، وحركة الخروج/ الإحالة من المناطق الصناعية التقليدية ودوافعها، وحجم الشكاوى الواردة من المجتمع والبلديات”.
بشكل عام، ينقل إلغاء البلاغ 10 وتعديل البلاغين 16 و17 النقاش من سؤال السماح والمنع إلى سؤال الكيفية والجدوى. فالمغزى الاقتصادي لا يكمن في “فتح الباب” بحدّ ذاته، بل في تحويل السماح إلى منظومة قابلة للقياس تخفّض كلفة التأسيس، وتوسّع القاعدة الإنتاجية من دون أن تنتج عشوائية مقنّنة أو أعباءً خفية على البيئة والخزينة.
لذلك تبدو معادلة النجاح واضحة وهي خرائط مواقع ذكية تحدّد ما يسمح به وأين، وسلّم مخاطر بيئي يربط النشاط بالاشتراطات، وتعريفات خدمات متوازنة وفق مبدأ “المستفيد يدفع” لضمان عدالة المنافسة بين الداخلين في المدن الصناعية وخارجها، ونظام ترخيص رقمي بمدد قطعية ورقابة ميدانية تُنشر نتائجها على منصة شفافة. وما لم تقترن هذه العناصر بآليات تظلّم فعّالة ومشاركة للمجتمعات المحلية، ستظلّ الفواتير مؤجّلة على هيئة نزاعات قانونية وتكاليف بنية تحتية متنامية.





