تأملات

التفاعل مع قضايا الأمة: نحو استدامة لا تنقطع

يونيو 29, 2024

التفاعل مع قضايا الأمة: نحو استدامة لا تنقطع

الكيمياء بمركباتها التي تتكون بعد تفاعل العديد من العناصر هي بحر الأسرار التي لا يمكن الوصول إلى قاعها والتمتع بما فيها من خيرات إلا إذا بدأنا العمل من نقطة النهاية، فتحليل المركبات وتجزئتها يحتاج إلى العديد من التجارب المخبرية والتي منها ما قد يؤدي إلى أضرار جسيمة في رحلة الوصول إلى السر، ولكن وبعد أن يتم تسمية العناصر بمسمياتها وتتحدد المكونات بمقاديرها حينها تحكم الكيمياء بأحكامها، ومن ينظر إلى أعراف الشعوب وعاداتها فإنما هو ينظر إلى مركبات بصيغتها النهائية المتألفة من مزيج الجغرافيا والدين، والحرب والسلم، والتجارة والهجرة، وزحف البادية على المدينة، وشيء من ذلك القرن وشيء من هذا القرن، فمن أجل فهم أكبر وجب التحليل والتفكيك والصبر والمصابرة.


إن الأمم في ترحال مستمر بغية الوصول إلى الشكل الأمثل الذي تود أن تعيش عليه وتورثه من جيل إلى جيل، ولا شك أنها في تلك الرحلة تحتاج إلى ما يساهم في الحفاظ على صمودها أمام حملات التضعيف والتهوين والهدم سواء كانت بمعاول خارجية أو داخلية، فهي دائمة اللجوء نحو التفاعل مع القضايا التي تشكل هويتها سواء كانت دينية أو اجتماعية أو عرقية أو اقتصادية، بل وفي أحيان كثيرة فأنها قد تختلق لنفسها قضية تحاول أن تتفاعل معها إن شعرت أنها تشتت وتشرذمت، فالأفراد ولحقيقة مسلمة في تفاوت مستوياتهم في الإدراك والوعي فإن إيجاد بيئة تؤمن لهم التفاعل المستمر مع قضية واضحة المعالم أمر بدهي يعتمد عليه أصحاب القرار وصناعه للحفاظ على بقاء أممهم.


ومن ينظر إلى طبائع الأمم في التفاعل مع قضية محاربة المستبد والسعي نحو انهاء مظاهر الاستبداد في شتى مجالات الحياة سيجد أن المحرك نحو ذلك التفاعل هو قرار تم اتخاذه من مجاميع قليلة آمنت أن الأضرار التي ستلحق بهم لا تساوي شيء أمام مكسب القضاء على المستبد، فالنتائج والتي ستكون على شكل إعدامات، أو سجن وتعذيب، أو تهجير وتنكيل جميعها قد أخذت بعين الاعتبار حين أرادت تلك المجموعة أن توسع من نطاق التفاعل حتى يندمج فيه مكونات أخرى، ولكن مما لا شك فيه أن العناصر الرئيسة الثلاثة المكونة لمركب التفاعل ضد المستبد كانت تتمحور في رفض العبودية والعتق منها، والسعي نحو مستقبل فيه تحقق الأمل المنشود، والخوف على فناء الأجيال القادمة وضياع مقدراتهم، فحين تم المزج بين تلك العناصر بدأ المستبد يشعر في خطورة عودة الحياة للأمة التي ظن أن الحديد والنار قد قضى على أي فكرة نضالية أو إصلاحية قد تخرج من رحمها.


إن الأمة التي تسعى نحو استعادة عافيتها ينبغي عليها أن تأخذ بالعوامل المساعدة على إبقاء التفاعل مع قضاياها ممتداً لأطول فترة بطريقة ناجعة ومثمرة، فكلما ازدادت رقعة دائرة المشاركة الشعبية بمختلف مكوناتها ومستوياتها كلما بنت الأمة سياجاً جديداً يحافظ على عدم الوصول نحو مركز التفاعل والقضاء عليه، والنضج والحكمة في تقبل المستويات المتفاوتة في حجم التفاعل وأدواته ووسائله لا شك أنه يساهم في القضاء على فتن التشكيك والتخوين والاتهامات التي تقوض من فرص نجاح التفاعل الأممي مع القضايا، فمن ينظر إلى مستوى تفاعل الشعوب مع معركة طوفان الأقصى سيجد وبشكل جلي أن خطابات الناطق العسكري باسم كتائب القسام (أبو عبيدة) راعت ذلك التفاوت بل وقدرته واحتوته دون انكار أو تسخيف أو تقليل منه، فالفهم الدقيق لقدرات وإمكانات وحدود حركة تفاعل الحواضن الشعبية هو ما يبقي التفاعل صامداً لفترة أطول، فالخلط بين سقف الإمكانات وسقف التطلعات سيدخل الأمور في بعضها ويعقد الوسط التفاعلي ويفسد المركب النهائي ونعود إلى المربع الأول.


من شواهد ومظاهر الأمم الحية والغيورة على قضاياها وجود المراكز والمنتديات التي من شأنها أن ترفع من مستوى الوعي لدى المتفاعلين مع القضايا والمستهدفين كذلك، وأولى الأولويات في بناء الوعي هو تعزيز المفاهيم الرامية إلى عدم استعداء من يقف على الحياد في قضايا معينة، بل إن محاولة إيجاد مساحات مشتركة معه في قضايا أخرى وكسبه كمؤيد للتفاعل تقلل من فرص المقاومة والرفض والسقوط، وهنا تأتي ضرورة تحديد الأولويات في قضايا الأمة وعدم جعلها في مستوى واحد في الأهمية، فبعض القضايا قد يتم القبول بمستوى تفاعل معين معها والبعض الآخر يحتاج إلى مستوى أكبر وتضحيات أعلى، فإن لم يتم التفريق بين المستويات سيتم هدر الأوقات والإمكانات، بل وستخسر الأمة العديد من الكفاءات والقيادات.


إن حقيقة سير الأمة نحو مجدها وكسب حقوقها يأتي بعض نضال طويل ومحاولات عدة في التفاعل مع قضاياها، والأمة ما هي إلا مجموعة كبيرة من الأفراد تحكمهم الطبائع البشرية التي تؤثر فيها تقلبات الحماسة والإحجام، والاهتمام والعزوف، ولا شك أن التوظيف السليم لتلك المؤثرات التي لا يمكن تحييدها في عالم البشر هو الإطار الكبير الذي تمتد به كل طرق ومسارات التفاعل نحو النجاح، فالاصطدام مع الطبيعة البشرية وانزال أحكام الماديات والجمادات عليها سيقضي على آمال الأمة وتطلعاتها، فالكياسة والفطنة هي من تتقبل البشرية وما يؤثر فيها ويحفزها نحو التفاعل من خلفيات دينية وعرقية واجتماعية ونفسية واقتصادية.



شارك