فكر

الحياة التي نعرف: كيف تستأنفُ الأمة حياتها؟ (1-5)

يونيو 2, 2024

الحياة التي نعرف: كيف تستأنفُ الأمة حياتها؟ (1-5)


( 1 )

الأمة هي تلك المفردة التي تطرب الآذان وتشنف المسامع حين تذكر في أي منتدى أو تجمع بشري، فهي مفاهيم متحركة عابرة يستظل بظلها مجتمعات وقوميات وأعراق وجغرافيا مترامية الأطراف، هي موروثات وعادات وآمال وآلام جميعها تسير نحو غايات كبرى، ولعل دستور المدينة المنورة الذي وُضع كورقة رسمية في أول كيان يجمع بين المسلمين ومن يعيشون معهم في يثرب كان واضحاً في تسمية ذلك الكيان بالأمة، فمفاهيم مثل الدولة أو الإمبراطورية جميعها لا توصل إلى عظمة مفهوم الأمة.


الحياة تدب في الأمم كما تدب في سائر المخلوقات، ولكن قياس جودة تلك الحياة يعتمد على ما يظهر على أفرادها من سلوكيات وإنتاجات. فمتى كان التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل يرى بطريقة جلية؛ كانت حياة الأمة تنعم بمستوى عال من الجودة، فانقطاع الأمة عن تاريخها بما فيه من نجاحات وإخفاقات يصيب جسدها بعلل وأمراض مزمنة بسبب التشوه الطارئ على حاضر الأمة المبتعد عن أسس ومبادئ ماضيها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، فتاريخنا نحن كأمة إسلامية ليس بحكايات وأساطير تُروى لتؤنس الجالس أو تحضر الأطفال للنوم، بل هو أصل لفهم الشريعة ومقاصدها، وأداة لفهم سنن الله في خلقه وكونه والعمل وفقاً لمقتضياتها.


 ( 2 )

أتذكر أن أحدهم ذات مرة قال إن الأمة اليوم وفية ومدينة لمجموعة قليلة من الصحابة آمنت بموعود الله ونصره حين سمعت آية نزلت من كتابه “إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم”، فثبتوا يوم بدر الكبرى وتحقق النصر وظهر الدين على سائر الأديان بعد أربعة عقود من الزمن بفضل ذلك الثبات، والأمة مدينة بالوفاء لمجتمع الصحابة رضوان الله عليهم يوم الأحزاب حين أتت العرب بقبائلها، وأتت اليهود بغادريها، وبين هؤلاء وهؤلاء كان المرجفون من المنافقين يثبطون من الهمم ويبثون الرعب حتى يسقط مشروع الأمة، ولكن ثبات سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه مع صحابته رد كيد الأحزاب وسار المشروع من جديد.


ولذا؛ فإنني أستغرب اليوم حين تُوصف الأمة اليوم بأنها تعيش في ماضيها، وقابعة بين صفحات الكتب التي تروي بطولات وأمجاد السابقين، والحقيقة أن استذكار تلك الحقب وما فيها من انتصارات هو من أعظم صور الوفاء لتلك الأجيال، فالترابط الفكري والمفاهيمي بين القرون الأولى في تأسيس مشروع الأمة ووضع لبناته الأولى وبين حاضرنا اليوم يُبقي الأمة على قيد الحياة وإن هبطت بعض مؤشراتها الحيوية، ولكن إن تركت ذلك الماضي خلفها وعزمت على بناء حاضر منفصل عنه سيأتي عليها زمان ستعض أصابع الندم والحسرة على ذلك الصنيع، فأينما رأينا في أحد أقطار الأرض مجتمعا يتذكر تاريخه ويعظم العلامات الفارقة من القادة والعلماء والمجددين فيه؛ ندرك حينها أن الحياة لا زالت تدب في هذا المكان.


( 3 )

الحياة للأمة وفق معنى الوفاء تكون بعدة أشكال وصور، فمنها حين يشيع الترضي والذكر الحسن لمن قدم لمشروع الأمة منجزاً او أتى بنصر أو دفع بلية ومصيبة، ومنها حين يتم استخلاص الدروس والعبر من حقبة زمنية ما وإسقاطها على حاضرنا من أجل الاستفادة منها، ومنها البناء على ما تم الانتهاء منه في مشاريع الإصلاح والتغيير دون نسف لما سبق به الأولون، وأعظمها خوض غمار معركة الوعي بالذب عن كل من ضحى بوقته وجهده وماله ونفسه من أجل أن تبقى الأمة صامدة أمام الأخطار الخارجية والفتن الداخلية.


الأمة اليوم، إن أرادت أن تجعل من الحياة التي تعيشها حياة لائقة بماضيها ومستقبلها، وجب عليها الوفاء لشهداء ميدان رابعة كما هي وفية لشهداء كربلاء، وعليها الوفاء لمعركة طوفان الأقصى كما كانت وفية لمعركة اليرموك ومعركة القادسية، فنحن أمة أحد عوامل قوتها قوله تعالى: “والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم”، فنحن أمة حية وفية لكل مشاريع الخلافة الإسلامية رغم ما شابها من ممارسات عاكست بعض مقاصدها، ونحن لن ننسى معارك الجسر وبلاط الشهداء وحطين وذات الصواري، ونقف إجلالاً واحتراماً أمام كل من ظلت هامته شامخة أمام المستعمر حتى طرده من أرضه أو استشهد في سبيل ذلك، ونحن الأمة التي لا يمكن أن ينسينا حر الصيف وبرد الشتاء تلك الزهور التي تفتحت في ربيعنا العربي المبارك، ونحن الحافظون للعهد والوعد لكل من حمل حريته على كفيه وقدمها قرباناً لكي تنصلح أحوال مجتمعه وينعم بأدوات الإصلاح والحرية والقضاء على الفساد، ونحن السكن والمأوى والكتف الذي يستند عليه كل من وجد في الهجرة ملاذا، وترك الديار سعةً وفسحةً في قول الحق والصدع به، فنحن أمة تتنفس الحياة بوفائها لمن يحمي ظهرها ويبعث الأمل في مستقبلها.



شارك

مقالات ذات صلة