تأملات
أُحِبُّ الغوص في كُتب ماهر شفيق فريد، فهو يتجول بين الأدب العربي والغربي بِحُرِّية شديدة، وبقراءات واسعة. يُلخِّص في كتابه “حصاد القلم” رأيه في الجيل الأدبي في مصر، فيقول: “مما لا شك فيه أن الرعيل الأول من الرواد الذين ظهروا في العقود الأولى من القرن العشرين قد لعبوا أخطر الأدوار في بناء أدبنا الحديث وتشكيل اتجاهاتنا الفكرية، ولا جدال أيضًا أنهم قد جعلوا هذه الفترة التي عايشوها فترة خصبة غنية عميقة، فكان الجمهور القارئ يومذاك يشهد ثورة الدكتور طه حسين على مسلَّمات البحث العلمي في الأدب والتاريخ والدين، ودعوته إلى اصطناع المناهج الغربية في التفكير والبحث، وثورة شكري والمازني والعقاد على القوالب الجامدة في الشعر، وتأليفهم ما يسمى مدرسة الديوان، كما شهدت هذه الفترة أيضًا جهود الدكتور محمد حسين هيكل روائيًّا وناقدًا، وكفاح سلامة موسى في الأدب والصحافة”.
ثم يخلص ماهر إلى القول: “لديَّ إيمان وطيد بأنَّ التقدير الحق لهؤلاء الرواد لا يكون بالتصفيق الساذج والهتاف الحماسي، وإنما يكون بالدراسة الموضوعية الجادة التي يتوافر لها من البعد الزمني ما يكون كافيًا للنظرة الصائبة التي لا يُعميها أثر المعاصرة عن رؤية إنتاج هؤلاء الرواد على حقيقته، بإيجابياته وسلبياته”.
ومنذ قرأت تشبيه ماهر شفيق للعقاد وطه حسين بأسدَي كوبري قصر النيل وأنا أتذكَّر هذين الأديبَين على هذه الصورة. يقول ماهر شفيق: “على بوابات الأدب المصري، بل العربي، في النصف الأول من القرن العشرين، يقوم أديبان شامخان كأسدَي كوبري قصر النيل رسوخًا وجلالًا: طه حسين العظيم، والعقاد الأكثر عظمة”.
مِن النادر أن يعترف كاتب عن تفاوت قيمة ما يكتبه وما يبقى منه تحت اختبار الزمن ومرور الأيام. يقول ماهر في تصديره لكتابه “النوافذ السحرية“: “وسيجد القارئ هنا أيضًا بعض مقالات أقرب إلى أصول الفن الأدبي بعامة، مثل مقالاتي عن العلاقة بين الأدب والفلسفة، والنقد التفسيري، ومعنى الصورة الشعرية في النقد الحديث. وهي مقالات أعتز بها اعتزازًا خاصًّا، وأطمع في أن تعيش على الزمان فترة معقولة (كتبت -على امتداد نصف قرن- أشياء كثيرة زائلة، وقليلًا باقيًا!)”.
إذا لفت نظرك عناوين كُتبه مثل “النوافذ السحرية“، فماهر شفيق يكشف لنا سِرّ اختياره عناوينه، فهي عناوين قصائد أجنبية، فهو -وقد ضنَّت عليه رَبّات الفن بملَكة قرض الشعر- لديه ولع بأن يخلع على كُتبه عناوين مقتبسة من شعراء، فكُتبه “الرجل ذو الجيتار الأزرق“، و”الإغارة على الحدود“، و”دع الخيال يهيم“، و”النوافذ السحرية“، و”ممالكالذهب“، قد قبست كلها هذه العناوين من الشعراء: ولاس ستفنز، وسان جون برس، وجون كيتس، على التوالي.
تحنيط نجيب محفوظ
يُحذِّر ماهر شفيق فريد من تحنيط نجيب محفوظ، ويستشهد بذلك بقول الشاعر محمود درويش يومًا لنقّاده المسرفين في مدحه -وزملائه- تعاطفًا مع قضيته: “ارحمونا من هذا الحب القاسي”.
ماهر يقول للنقاد: “ارحمونا من هذا الرجوع إلى نجيب محفوظ في كل صغيرة وكبيرة، وقياس الأمور بمقياسه. إنه صرحٌ شامخ ليس بحاجة إلى حماسكم. إنه -في التاريخ الأدبي- مثل ديكنز ودستويفسكي وبلزاك، وإن يكُن أقل درجة أو درجات. لا تجعلوا مِن قوّته الحية -أعظم ما فيه- أثرًا مُتْحَفِيًّا، أو طوطمًا ترفعون إليه القرابين والصلوات. إنَّ دَرْس محفوظ الأول هو: تعلَّموا أن تجاوزوا ذواتكم كما جاوزت ذاتي. وأحمد الله أني عشت حتى رأيت كُتّاب ما بعد محفوظ يتجاوزونه، وأرجو أن يعيش ابني حتى يرى جيلًا جديدًا من كُتّاب الرواية والقصة القصيرة يتجاوز هؤلاء الذين ذكرتهم”. من كتابه “نجيب محفوظ في عيون العالم“.
نزار والأعين الزرقاء والمطلق
وفي أحد كُتبه التي خصَّصها لدراسة الشِّعر، يُبحِر الكاتب ماهر شفيق فريد في عالم الشاعر نزار قباني، ويقول لنا: “وحين نقول الحب لا بد أن يقفز إلى الذهن اسم نزار قباني، هذا الشاعر السوري المطبوع الذي أوتي خيالًا خصبًا وحساسية مرهفة، مما مكَّنه -عبر رحلة شعرية طويلة- من أن ينقش اسمه في قلوب شُبّان هذا الجيل وشابّاته، وقَلَّ أن تجد فيه مغرمًا بالأدب لم يقرأ “قالت لي السمراء” أو “طفولة نهد” أو “أنت لي” أو “سامبا” أو “قصائد” أو “حبيبتي” أو “الرسم بالكلمات” أو “يوميات امرأة لامبالية” أو “رسالة حب” أو “كتاب الحب”، فنزار بطبيعة تكوينه الفني متخصص في استكشاف أبعاد العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو يكتب -باستبصار يكاد أن يكون أنثويًّا- عن مشاعر المرأة الشرقية وأشواقها المكبوتة…”.
ثم يُنبِّهنا أنه ليست كل قصائد نزار جيِّدة، فإنَّ التعبير المباشر يطغى على بعضها ويُقلِّل من قيمتها الفنية. على أنَّ له قصائد أُخرى هي أعمال فنية كاملة لا تجد فيها عيبًا واحدًا. ويستشهد مثلًا بقصيدة نزار “القصيدة الزرقاء”:
في مرفأ عينيك الأزرق
أمطارٌ من ضوءٍ مسموع
وشموسٌ دائخةٌ.. وقلوع
ترسم رحلتها للمطلق
…
في مرفأ عينيك الأزرق
شبّاكٌ بحري مفتوح
وطيورٌ في الأبعاد تلوح
تبحث عن جُزرٍ لم تُخلَق…
*
في مرفأ عينيك الأزرق..
يتساقط ثلجٌ في تموز
ومراكب حُبلى بالفيروز
أغرقت البحر ولم تغرق..
*
في مرفأ عينيك الأزرق
أركض كالطفل على الصخر
أستنشق رائحة البحر..
وأعود كعصفورٍ مُرهَق..
*
في مرفأ عينيك الأزرق..
أحلم بالبحر وبالإبحار
وأصيد ملايين الأقمار
وعقود اللؤلؤ والزنبق
*
ثم يختم بقوله: “سيعتريك دوار حلو من الغنى التخيُّلي، والصور الشعرية المعبِّرة، حيث لا توجد كلمة واحدة وإلا لها وظيفة. إنّ الشعر هو فن الإيجاز، وأي ثرثرة تُفسِد أثره الكلي”.
فن الأدب لشوبنهاور
في تقديم ماهر شفيق لكتاب “فن الأدب” يخبرنا بأنّ مقالات شوبنهاور تحفل باستبصارات عميقة وعبارات لا تُنسى، فهي أوابد من القول وشوارد من الفكر وشرارات قدحها عقله اللامع وألبسها ثوبًا قشيبًا من الفطنة والجلاء، ومن أمثلتها في هذا الكتاب:
“الأسلوب هو تقاطيع الذهن وملامحه، وهو مَنْفَذ إلى الشخصية أكثر صدقًا ودلالة من ملامح الوجه”.
“القلم للفكر مثل العصا للسائر، إلا أنّ مَشْيَكَ يكون أيسَر متى كان بلا عصا”.
“الزمن سيّد مهذّب على ما يُقال، إلا أنه يتباطأ في إعطاء الحقوق لأهلها، كالمحاكم تمامًا”.
“القراءة إن هي إلا التفكير برأس إنسان آخر لا برؤوسنا نحن”.
“عندما أتأمل سلوك حشد من الناس في حضرة عمل من أعمال النبوغ، وأتابع كيف يُبدون إعجابهم وكيف يصفّقون، سرعان ما تحضرني صورة القرود المدربة إذ تؤدى دورها في استعراض ما”.
“الأغلب أن يفضّل صاحب العقل العظيم مناجاة الذات على أي حوار مع الآخرين”.
“إن كان هناك من يشتهي الرفقة ويطلب المسلاة التي تخفف عنه الشعور بالوحدة، فإنه لن يجد خيرًا من محبّة كلب أمين يجد في طباعه وصفاته الذهنية بهجة وإمتاعًا ما عليهما من مزيد”.
ويختم بقوله: “وبمثل هذه اللمحات البارعة، الجامعة بين الصدق واللماحية، استحق شوبنهاور مكانًا بين حكماء الإنسانية وفطنائها عبر العصور، من أمثال مرقص أورليوس وبسكال ولا روشفوكو ونتشه وأوسكار وايلد وبرنارد شو، على اختلاف توجهاتهم، وتبايُن أمزجتهم، وتفاوُت حظوظهم من الجد والهزل”.
وبمناسبة كلمات شوبنهاور، هذه كلمات أعجبتني في بطون كُتب ماهر شفيق فريد:
”تأتي المعرفة لكن الحكمة تتباطأ”/ تنيسون.
”الشهرة عطر الأعمال البطولية”/ سقراط (أوردها أفلاطون).
وعن الغرور يقول: “كان كالديك الذي ظنَّ أن الشمس بزغت لتسمع صياحه”/ جورج إليوت.
”العرفان بالجميل هو ذكرى القلب”/ ج.ب.ماسيو.
“إنه لأمر باعث على البهجة، قطعًا، أن يرى المرء اسمه مطبوعًا، فالكتاب كتاب حتى لو لم يكُن فيه شيء”/ لورد بيرون.
خلاصة رحلة في عالم ماهر شفيق فريد
يمتعك ماهر بالكتابة وتحليل الأدباء والشخصيات الفكرية. اقرأ الفصل الذي خصصه عن عبد الرحمن بدوي وقيمته الفكرية، حيث يقول فيه: ”كالمتنبي، ملأ الدنيا وشَغَل الناس. وكالمتنبي، انقسم الناس في شأنه فريقين، أحدهما يرفعه إلى أعلى الذُّرى، والآخر لا يكاد يُقِرّ له بفضل… ويظل بدوي بين هذه الأقطاب المتقابلة ينام ملء جفونه عن شواردها، تاركًا الخلق يسهرون جرّاها ويختصمون. فإذا تكلّم قال أشياء مِن قَبيل: الشعر الحديث تفاهة، وأنا الفيلسوف الوحيد”.
ثم يكمل: “كالمتنبي، كان عبد الرحمن بدوي مسرفًا في الاعتداد بذاته، حتى إنه في موسوعته الفلسفية التي كسرها على جزأين لم يُورِد أي فيلسوف عربي سوى نفسه، وأستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق. وأغلب الظن أن هذا كان وفاءً منه للأستاذ من ناحية، وشعورًا من ناحية أخرى بأنه قد أصبح من عالمنا على مسافة مأمونة، في رحاب الله، بحيث لا تخشى منه منافسة!”.
تتميز كتبه كذلك باعترافه بهويته الفكرية المنوعة، فهو القبطي الذي رضع لبن المسيحية وأُشرب تعاليمها منذ نعومة أظفاره، بل في مورثاته من قبل مولده يعترف لنا في كتبه بأن الأدب القبطي في مجمله ليس ذا قيمة كبيرة، وأنه إذا كان يُدرَس اليوم فذلك لأسباب تاريخية وثقافية أكثر مما هو الشأن لأي قيمة باطنة تكمن فيه.
“إنه -أعني الأدب المكتوب باللغة القبطية- لا يصمد للمقارنة بتيار الأدب العربي العظيم، الذي نشأ في ظل الجاهلية ثم الإسلام، وساهم فيه -على فترات متقطعة، وبدرجات متفاوتة- بعض أدباء نصارى أو يهود، ولكنه ظل في مجمله تجسيدًا قويًّا للعبقرية الإسلامية في أعلى تجلياتها. ولو قلت غير ذلك لأذنبت بمجافاة الحقيقة -وهي أقدس من كل عاطفة شخصية- وبالتحيز لبني جلدتي وإخواني في المعتقد”.
في كتابه “قاعة من المرايا” يتجول بك في عشرات المقالات، ويحتوي على إعادة قراءة لشخصيات أدبية منوعة بلغة عالية ومميزة، دراسة عن محمد السباعي والد يوسف السباعي، وينبّهنا في الكتاب إلى أنه قَلَّ مِن الأدباء مَن كان موضع تقدير الكبار من معاصريه، والجيل التالي له، ثم أصبح نَسْيًا مَنْسِيًّا لدى الجيل الحاضر من القراء، مثلما هو الشأن مع محمد السباعي. وقرأت عند عارف حجاوي عن السباعي: “كان -رحمه الله- يُترجِم قصة للكاتب جي دي موباسان.. وفي الحوار نجد الخادم يقول لسيِّده: ولستَ بمستبقٍ أخًا لا تَلُمَّهُ.. على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ.. هي مدرسة المنفلوطي المنفلطة، أقصد المنفلتة في الترجمة. ترجمة تعطيك أدبًا جديدًا لأنَّ رُوح المترجِم تفرض سطوتها الجميلة”، فقد كان السباعي يضع أبياتًا جاهلية على أبطال الروايات الروسية.
في كتاب ماهر كذلك حديث عن علاقة لويس عوض مع الشعر الإنجليزي، وفصول عن محمد عناني المترجِم القدير، وصلاح جاهين، ونوافذ مميزة على الثقافة العالمية مثل قراءات في شخصيات مثل: تروتسكي – وستيفان تسفايج – وسومرست موم – ونابليون روائيًّا – وشوبنهاور – وإطلالة على إنجلز الرأسمالي الشيوعي – والفن الروائي لديفيد لودج ترجمة ماهر البطوطي… كأنها حفلة من الشخصيات الأدبية وعشرات الترجمات للقطع الشعرية.
إذا أردت تلخيص عيوب هذا الناقد المتمكن فهي أنّ كُتبه ضخمة كبيرة الصفحات، تحتاج إلى البحث بين صفحاتها عن نظراته في كتب الأدباء وحكايات الكتب، وأحيانًا تغرق كتبه في دراسات الأدب الغربي، وتفتقر أحيانًا كتبه التي تكون تجميعة مقالات وأبحاث إلى الوحدة الموضوعية، لكن هوامشه عن الأدب العربي ثرية، وتحيزاته واضحة، فهو كاره لمحمود محمد شاكر، ولا يُطيق مصطفى صادق الرافعي، لكن يُعلِن ذلك بلغة عالية وأسلوب مميز، ويعترف بتحيزه التام للحضارة الغربية، وغيرها من قناعات قد تُزعِج القارئ، لكني أحترم صراحته في الإعلان عنها.
ملحة الوداع ..
قصة عن الشاعر الكبير أنون
ينقل ماهر شفيق فريد في كتابه “قراءات شتى” قصة عن الأديب الراحل ثروت أباظة، رواها في بعض مقالاته، أنّ كاتبًا من الكُتاب عثر بقصيدة من الشعر الأجنبي مذيَّلة بكلمة “أنون” (anon). فكتب يقول ما معناه: قرأت حديثًا قصيدة جميلة للشاعر الكبير أنون!
ووجْهُ الطرافة في هذه النادرة أن “أنون” ليس اسم شاعر من الشعراء، وإنما هو اختصار كلمة “anonymous” بالإنجليزية، ومعناها “مجهول المؤلف” أو “غفل من التوقيع”. ولكنّ كاتبنا -كما هو واضح- كان يجهل هذه الحقيقة، فظنَّ الكلمة اسم عَلَم، وأراد -زيادةً في الكرم- أن يُضْفِيَ على الاسم صفة العظمة!




