تأملات

لماذا لا تجيد جيوشنا استعمال “الكارلو”؟

سبتمبر 9, 2025

لماذا لا تجيد جيوشنا استعمال “الكارلو”؟

سلاح بدائي الصنع، رشاش متواضع في هيئته، بسيط في حجمه، يمكن إنتاجه في ورشة خراطة وحدادة، يسع خمسا وعشرين طلقة، ولا يصيب بدقة أبعد من مئة متر، مستلهم من سلاح كارل جوستاف السويدي الذي ابتكر في أواخر الحرب العالمية الثانية، وطوره المصريون وسموه “بورسعيد” تزامنا مع حرب الاستنزاف، وعرفه الفلسطينيون منذ الانتفاضة الأولى، ولمع سواده أكثر بالانتفاضة الثانية، لكنَّ أبهى إطلالاته كانت في العقد الأخير، أبسط نماذجه لا تكلف أكثر من خمسمئة دولار، وأبهظ نسخه ثمنًا قد لا تكلف أكثر من ثلاثة آلاف دولار، حيث يستطيع الشاب بادخار مصروفه أو الموظف بادخار راتبه، خلال عام على الأكثر، أن “يصنع” واحدًا. صحيح أنه لا يضاهي بندقية واحدة من صفقات السلاح المليارية، وربما لا يرقى إلى سعر “كتّافة” بعض الضباط في جيوش عربية، لكن أثره.. ما ترى، وما تسمع أيضًا، وما تجد من رائحة. 

 

يحفظه الإسرائيليون عن ظهر قلب، يميزون صوت زخاته من دون معاينة، ويعلمون الخبر قبل أي أحد آخر، دون أن ينظروا في مجموعات تليجرام وعواجل الجزيرة، لأنهم ذاتهم يكونون جزءًا من الخبر، حيث شاب فلسطيني، مراهق على الأغلب، يقرر في يوم أن يثأر، هكذا بمنتهى الصعوبة والسهولة معًا، “يتصرف” في الكارلو، وذلك -على مشقته- هو الجزء الأبسط من الخطة، ثم يرصد هدفه ويتسلل من هوةٍ ما، أغفلتها بإذن الله عيون لا تدع مثقال ذرة تعبر من دون إذن، لينتقل لحظتها بين عالمين لا مدينتين، غير معترف لا بخط أخضر ولا أحمر، كل تلك البلاد أرضه، وكل ذلك الميراث وِرثه، نصيبه وحده الذي يسع البقية، وإرثه الذي سيورث بعد دقائق لمولود جديد، “الكارلو” في يده، و”الله” في قلبه، والهدف في عينيه، طخ.. قال كلمته، ومضى، يرتقي هو، ويسقط الكارلو، منتظرًا صاحبه الجديد!

 

“الكارلو” أطل على القدس كشمس حمراء بعد قمر دموي، مسقطًا برمياته أربعين مصابًا من سارقي الأرض مصاصي الدماء، وستة قتلى غادروا الحافلة نحو جهنم، بفعل رجل واحد يملكه، وبظهره رفيق كفاح يعتمر مسدسًا، في عملية جرجرت نتنياهو وبن غفير من أذنيهما إلى موقعها، لا ليعاينوا مسرح الجريمة، وإنما ليصدّقوا أن تلك “القطعة الحديدية” فعلت كل ذلك. نحو خمسين ضحيةً لسلاحين “حقيرين” في نظره، أحدهما الكارلو؛ فكيف لو ملك هؤلاء أكثر؟ أيفعلون ما تفعله قذيفة متفجرات وزنها طن؟ الإجابة التي تعب في العثور عليها عقل نتنياهو كانت جليةً طوال الوقت في الجسدين الشريفين الممددين بالقرب منه، حيث كانت في قلبيهما “وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمَى”، وذلك هو سر “الكارلو”، متى كان حامله رجلًا كان الله هو من يشد على إصبعه لحظة الضغط على الزناد!

 

هذا “الكارلو” مشكلته الوحيدة الشروط التي تصاحب اقتناءه، على هذا النحو من الدقة والصرامة و.. الشرف؛ فمثلًا لا يمكن لمستخدمه أن يقمع به مواطنا من بني جلدته، ولا أن يطلق الرصاص على بائع متجول قرر الاعتراض على قرارات الإزالة، ولا أن يغتال رجلًا كل ذنبه الكلمة، ولا أن يصوَّب نحو متظاهرين في ميدان عام يطالبون بلقمة العيش والكرامة، كما لا يمكن الاحتفاظ به حتى يصدأ، أو غمده في البدلة العسكرية حتى يتعفن، وإنما شرطه إطلاقه، ومفتاحه فتحه، فيُتسلَّم ساخنًا كخبز لبلاد، ويسلَّم ساخنًا في أكباد أعدائها، ولا يحتفظ به في جراب، وإنما يموّه في جلباب، ما إن يتجلى حتى يُجلِيَ فرائسه عن وجه الحياة، ويركبون على متنه إلى جهنم!

 

ذلك “الكارلو” لا يقبل التكدس، ولا أن ينتظر قرارا لن يأتي، ولا أن يعمل كقداحة لسيجار تجار السلام على حسابه، ولا يحب الاتفاقيات، أية اتفاقيات، مع العدو، ما دام مشهرًا سلاحه في نواصينا، قطعة شريفة، إما تتشرف بحاملها أو تشرفه، أو تتنحى عن يده إن طالتها ذرة من رجس، فلا يسكن إلا الأيدي المتوضئة، ولا يلين سوى بين الأكف الطاهرة، أما هؤلاء الذين يحملون أسلحةً مستوردة، مستوردة المواد الخام بما فيها السيادة والكرامة، فلا يحبهم “الكارلو” كما يبادلونه المشاعر ذاتها، حيث أي شكل للمقاومة يقلقهم، وأي معنى للمروءة يكشفهم، وأي لحظة عفوية بحكم فطرة الرجال لا تأخذ كثيرا من الوقت حتى تثخن في الميدان، تفضح عقود خزيهم الطويلة.

 

وأخيرًا، بحسب ما توصلت إليه من طول بحث وتدقيق، وتقصٍّ وتحقيق، ومقارنات ومقاربات، بين أسلحة الجيوش النظامية العربية، وأسلحة الشبان المنفردين المساكين، وبمطالعة وزن الصدأ فوق الأسلحة باهظة الثمن، الأغلى بكثير من حامليها، ومعاينة سعة الأثر للرشاشات بخسة الثمن، التي يكمن سرها الذي لا يقدر بثمن في قلوب أصحابها، أن أكبر 3 مشكلات لسلاح “الكارلو” أنه غير مستورد، وأنه لا يصدأ، وأنه لا يقدر بثمن.



شارك

مقالات ذات صلة