مجتمع
لا شيء أقسى من الموت في صمت بينما يتفرج من حولك عليك، إلا أن يكون موتك في ذلك السكوت ذبحًا بسكين باردة، ولا شيء أقسى من هذا إلا أن يواصل المتفرجون صمتهم بينما تنزف دمًا، وحدك، ولا شيء أقسى إلا أن يكون المتفرج هو أخوك نفسه، ثم ضف إلى ذلك كله أن ينصرف عنك المتفرجون أنفسهم، بينما يضع الضحية كفه فوق فمك ليمنع الحشرجة من الارتفاع، ويمنع الأنفاس من الخروج، ويمنع الصرخات الأخيرة من الوصول للأسماع، ولو وصلت ماذا سيحصل؟
دائمًا ما كان السودان هو ذلك الجزء الهادئ من الذاكرة والتصور، لا أتخيله إلا رجلًا طيبًا، ترتسم التجاعيد الرقيقة على وجهه، متكئًا على مصطبة دكانه، يذيع صوت القرآن من خلفه، ورائحة الشاي والخُمرة، غافيًا في ظل لافتته، محاولًا التصبّر على حرارة الجوّ بماء مثلج لا يخلو من يده حتى تمتلئ به فيغرق به جسمه.
وأتصور السودان سيدةً طيبة ترعى العيال بما يرضي الله، وتكدّ في أدبٍ وسعي، وعلى ثناياها ابتسامة تشقّ صحن السماء بدائرة كأنها القمر، وأتخيل السودان أطفالًا لا يكفّون عن لعب الكرة والتشاكس، وعن الجري دون حد ولا ضابط، وعن الدراسة في تفوق دون جهدٍ إضافي، وإنما عبر ذكاء فطريّ خالص، ربما جاء عوضًا عن رداءة الإمكانات والظروف، ومحاولات سرقة ذلك الكنز الكبير.
في هذا البلد الواسع، بجغرافيته المتمددة، وتاريخه العميق، وجماله المختلف، وتراثه المتنوع، وناسه الذين يوزنون بأغلى من الذهب، عصابات بشعة، ليست من بني جلدة هؤلاء الطيبين، مأجورة ومدعومة، بأكثر مال أهل الأرض حرامًا، وأدناه قيمة ووزنا، وأخسّه قصدا وغرضا، فيعطى للشقيق كي يقتل شقيقه، وللأخ ليذبح أخته، وللرجل يغتصب أهله، من أبناء الوطن الواحد، والمدينة، والحارة، والشارع!
لا أتخيل كيف يعيش عشرة ملايين إنسان في حياة النزوح بتلك الصحراء المهلكة، ولا كيف يشربون في ذلك الجفاف القاتل، ولا كيف يقتاتون ويأكلون ما يحفظ ما تبقى من أجسادهم في هذه المجاعة الكبرى، بينما بيوتهم العامرة بشتى الصنوف والأنواع، والتي لا يمر بها عابر إلا أكل حتى شكى التخمة، يرتع فيها “الدعّامة” كأنها أملاك أمهاتهم، فارغةً من أهلها الحقيقيين، أصحاب البيت وأنس الدار وحملة المفتاح الأصليّ الوحيد.
وعلى منوال الاحتلال الإسرائيلي نفسه، تجول الميليشيات وتصول في تلك الديار التي كانت آمنة، فيهجّرون أهلها بالمجازر والمذابح، بما لا يختلف عن دير ياسين وقانا، ويحرقون قرى كاملة على من فيها، ويداهمون الحرُم الآمنة من الأبواب والنوافذ، حاملين معهم اللحظات الأخيرة لمن صمد في مكانه حتى الرمق الأخير.
والإناث، سيدات السودان وتيجان رؤوسها، وقوارير البلاد الغالية، وعزّ السودانيّ وسنده، وكلمة السر في طيبة قلبه ونقاء سريرته، هؤلاء الحرائر من أرحام الحرائر، ومن أرحامهم الأحرار والأطهار، يحملن في صدورهنّ رعبًا ليس لأخرى في هذا الكون في اللحظة ذاتها، أن يصل إليها وحشٌ بشريّ، شره نهم بلا أخلاق ولا كرامة، مكبوت ومجنون جنسيًّا، لا يريد في تلك الحالة سواها، ليترك عليها آثار قذارته للأبد، ثم ينهي جريمته عليها بالرصاص، لتختفي الشهادة دون عودة!
وكل ذلك، لا يعني لأحدٍ من المتفرجين شيئًا، تلك الحكومات العربية التي لا تكاد تمر حشرة من بلد مجاور يتدخل فيها أي دخيل، أو يظهر فيها أي أمر، إلا وتدخلت وتغنّت بالوحدة، وبالقومية، وبقائمة طويلة من الأشياء التي تجمعنا، بينما السودان وحده وحده، عاري الصدر في فلاة، وعلى صدره هرم لا مجرد حجر، وهو يصرخ: أحد أحد! يودّ لو يغيثه أحدهم ولو قدَرًا، أن يذيع صوته أحدهم ولو لن يفعل أي شيء آخر!
وغزة؟ ليست الحجة، صحيحٌ أن الجميع يتمحور حولها الآن، لكن تلك النذالة العربية هي من وضعت السودان في ذلك من البداية، الحرب لم تبدأ اليوم، وإنما سبقت غزة بشهور معتبرة، بسلاسل من مثل هذه الجرائم، وأكثر، ولم نكن حينها مشغولين بغزة ولا رام الله، فأين كان الناس من البلد العزيز؟ كأنه مكتوب على ذلك الأخ الأسمر الطيب، أن يبقى مهمَلًا هكذا بلا مبالاة، وكأنه يدفع ثمن حياته في الجنوب، الذي ينظر إليه بطرف العين دائمًا.
كل ذلك، وذهب السودان في جسر لا يكاد ينقطع، يذهب إتاواتٍ إلى مسعّر الحرب وتاجر السلاح وناقل عدوى الخراب من جوار إلى جوار، ليقبض الثمن مغموسًا بالخيانة، وانعدام الشرف، وانتهاك أعراض الآمنات، وتدمير البلاد والعباد، وتهجير السكان من المساكن، وتقطيع السبل بالأهالي، في مقابل نفوذ جديد يضاف بلون السواد الكاحل والحمرة القانية إلى سجل تلك الإمبراطورية المتمددة كالسرطان -رغم دقتها ودقته- إلى جميع خلايانا ورئاتنا، واضعةً بصمتها المقززة في كل عضوٍ متألم، حتى تكاد تقول إنها مرت من هنا، وبقي الأثر، ضياعًا، ودمارًا، وهلاكًا، واغتصابًا، وسلاحًا، وكل ما ليس شرعيًّا، في بلاد كانت تتوق بعدما زفرت زفيرًا متعبًا، أن تستنشق شهيقًا نظيفًا، فلم تجد إلا تلك الرائحة والدخان!
ولأجل ذلكم كله، فالواجب كل الواجب أن نصبح للسودان صوتًا وسط السكوت المخيّم، وأن نكون لصرخاته صدى في ذلك التعتيم المخطط، فنحن امتداده ومذياعه، وعينه على العالم، وعين العالم عليه، حتى ولو كان الضجيج بلا جدوى، فتكون معذرتنا ولو قليلًا، أننا من أحدثنا ذلك الضجيج، في موسم الهجرة إلى الطغيان.