مشاركات سوريا

فارس الخوري: المسيحي الذي نطق الشهادة على منبر الجامع الأموي وأسقط حجة الاحتلال

يوليو 29, 2025

فارس الخوري: المسيحي الذي نطق الشهادة على منبر الجامع الأموي وأسقط حجة الاحتلال

– عصام يزبك

 

 

 

في مشهد استثنائي ظل محفوراً في الذاكرة الوطنية السورية، اعتلى فارس الخوري، الزعيم المسيحي، منبر الجامع الأموي بدمشق، ليخاطب الشعب السوري بكلمات حملت دلالات أكبر من اللحظة. لم يكن الأمر استعراضاً بلاغياً، بل موقفاً مدروساً من قامة وطنية أرادت أن تسقط حجة الاحتلال الفرنسي القائلة بحماية المسيحيين من المسلمين.

 


قال الخوري، في خطبته الشهيرة: “إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وكمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله”.

 


كلمات دوّت في أرجاء الجامع وأثّرت في الحاضرين، حتى خرجوا به في مظاهرةٍ عمّت شوارع دمشق، وكان من بينهم مسيحيون يهتفون “لا إله إلا الله” تأكيداً لوحدة الوطن والمصير.

 

 

 

مقاوم بالكلمة والموقف

عرف السوريون في فارس الخوري رجل دولة صلباً، ومناضلاً وطنياً حمل قضية بلاده بصدق وإخلاص خلال سنوات الانتداب الفرنسي، فكان أحد مؤسسي الكتلة الوطنية، وشارك مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في تأسيس أول حزب سياسي في ظل الاحتلال عام 1925، “حزب الشعب”، الذي دعا لتوحيد البلاد تحت نظام ملكي دستوري، يكون على رأسه الملك فيصل أو أحد إخوته.


وكان موقفه أمام المندوب السامي الفرنسي هنري غورو لا يقل جرأة، عندما خاطبه ساخراً من غطرسة المحتل الذي أشار إلى قصر الملك فيصل قائلاً: “أهذا هو القصر الذي كان يسكنه الملك فيصل؟”، فأجابه الخوري: “نعم يا صاحب الفخامة، وقد بناه والٍ عثماني، وسكنه بعده جمال باشا، ثم الجنرال اللنبي، ثم فيصل، والآن أنتم. وكلهم رحلوا.. وبقي القصر وبقينا نحن”.

 

 

 

صانع الدولة السورية

كان فارس الخوري رجل بناء كما كان رجل نضال. عُيّن ضمن المجلس الانتقالي الذي حكم دمشق بعد انسحاب العثمانيين عام 1918، ثم شغل عدة مناصب وزارية في العشرينيات والثلاثينيات، فأسس وزارة المالية السورية، وساهم في إنشاء كلية الحقوق بجامعة دمشق، ونقابة المحامين، وكان من أبرز المشاركين في صياغة الدستور السوري.


انتُخب رئيساً لمجلس النواب، ثم رئيساً للوزراء، وكان له دور محوري في الإضراب الستيني عام 1936، الذي أجبر الفرنسيين على إطلاق سراح المعتقلين ودعوة وفد الكتلة الوطنية للتفاوض في باريس.

 

 

 

صوت سوريا في المحافل الدولية

 

أمّا المشهد الذي لخص عبقرية فارس الخوري السياسية، فكان في جلسة الأمم المتحدة عام 1946. دخل الخوري القاعة بوقاره المعتاد، وجلس عمداً في مقعد المندوب الفرنسي. حاول الأخير إقناعه بالمغادرة، فأخرج الخوري ساعته، وبدأ يعدّ الدقائق بصوت مسموع، غير آبه بالصراخ الفرنسي، حتى وصل إلى 25 دقيقة، فقال: “سعادة السفير، جلستُ على مقعدك 25 دقيقةً، فكدت تقتلني غضباً، وسوريا تحملت احتلالكم 25 سنة. آن لها أن تستقل”.


وبالفعل، كان ذلك من المشاهد الختامية لحقبة الانتداب، إذ نالت سوريا استقلالها الكامل بعد أشهر.

 

 

مواقفه تجاه فلسطين

 

لم تقتصر نضالات فارس الخوري على الشأن السوري، بل كان حاضراً بقوة في قضية العرب الأولى: فلسطين. رفض قرار التقسيم عام 1947، وطالب المندوبين العرب بمغادرة القاعة احتجاجاً. مثّل سوريا في مجلس الأمن، وترأس جلساته أواخر عام 1946، وبقي في الولايات المتحدة طيلة حرب 1948، قبل أن يعود إلى دمشق حيث استُقبل استقبال الأبطال.

 

 

 

تكريم يليق بمقامه

توفي فارس الخوري في 2 كانون الثاني/ يناير 1962، فخرجت دمشق تشيّعه في جنازة مهيبة تقدمها رئيس الجمهورية ناظم القدسي، والرئيس الأسبق شكري القوتلي، ووزراء وطلاب ووفود شعبية ورسمية. وكان يوم وداعه حزيناً في قلوب السوريين.


كرّمته بلاده بإطلاق اسمه على أحد أهم شوارع دمشق، وتوالت الكتب والدراسات التي توثّق سيرته، باعتباره أحد مؤسسي الجمهورية السورية الحديثة، ورمزاً لوحدة الوطن وتعدديته الأصيلة.

شارك