تأملات
أُفكّرُ كيفَ يموتُ المرء لأنّه لم يجد مِلْعَقَة سكر؟
غزّةُ التي حملت جميعَ احتمالات الموت، حتى تلك التي لم تطرأ يومًا على خيالي الخصب، الموت قصفًا، حرقًا، بالرصاص، بالشظايا، بالقذائف المدفعية، بالكواد كابتر، بالروبوت، بالتعذيب، لكن هذه الميتة آلمتني جدًّا
وشعرت أنّ طعم المرارة يتسع في فمي، أو ربّما هو ذاته شعور كل غزاويّ بالخذلان من الأقرب والأبعد والأوسط
كأنْ يقول لي أحدهم:
مات لأنّه لم يشرب كأسَ شايٍ حُلْوةً، أو لأنه لم يأكل شريحةَ تفاح، أو لم يقضم قطعة موز، أو ربّما لم يأكل قطعة سكاكر
إنّها ميتة مرعبة، أكثر رعبًا من أن تموت مقصوفًا فلا يسعفك الوقت لتنتبه لسبب موتك الحقيقيّ، لأنّ سرعة الصاروخ وقدرته على تمزيق الجسد هائلة، فلا تترك وقتًا لسؤالٍ يخطر على بال الضحيّة.
أمّا أن تموت وأنتَ تعرفُ أنّك محتاج لمِلْعَقة سكر، يذهب محبوك ليسألوا خيمة خيمة عن ملعقة سكر، فتكون كل الردود متشابهة، كخيبة أمل كبير وقهر أكبر ( لا يوجد سكر)، تتحول حاجتك إلى السكر فجأة إلى غيبوبة، ثم إلى وداعٍ أخير
قاسٍ أليس كذلك؟
نعم جدًّا، كيف يحدث هذا في عصرنا الحالي، يحدث بسبب عظمة الذلّ والهوان الذي يعيشه العرب، فأنْ يموت في أرض الرباط رجل بسبب حاجته لملعقة سكر، وبلادنا الإسلامية تزخر به، فهذا هو العار والإثم الأكبر
قبل قليل يرد خبر أنَّ الاحتلال قصفَ نساءً وأطفالاً يقفون في طابور للحصول على مُكمّلٍ غذائيّ، والمُكمّل الغذائي هو عبارة عن معجون سائل من خلاصة الفستق وطعمه حلو يشبه الحلاوة، ولأنَّ الأطفال يحبون السكر، تقف الأُمّهاتُ الغزِّيّاتُ في هذا الطابور للحصول على شيء يشبه السكاكر لأطفالهنّ المتضورين من الجوع.
ما مشكلتك أيها الاحتلال مع السكر؟
هل تخاف إذا رأيتنا نتناول الشوكولاته، هل تنزعج إذا رأيت في أيدي أطفال غزة السكاكر؟ هل يرعبك رجل عجوز يضحك وهو يرتشف كأس شايه الحلوة؟ أو هل تقلق من صوت أمٍّ تقول لأطفالها سنعمل اليوم حلوياتٍ لذيذة؟
لكنّني أعتذر كان يجب عليَّ أن أدرك أنّ من يمنع دخول الطحين إلى غزّة، يكره أيضًا دخول السكر، ذلك أنّ لديه مشاكل مع اللون الأبيض، يحبُّ أن يراه في غزّة فقط على هيئة كفن.
لكنّنا لا نحبُّ الأبيض على هيئة كفن، نحن غير متصالحين مع هذه الفكرة، تجبرنا على هذه الفكرة منذ عامين تحت الإبادة، لكنها لا تقنعنا.
أُحبُّ الأبيضَ في الغيوم، وعلى سقفِ غرفتي التي قصفتموها، وعلى قميص طفلي يامن الذي قتلتموه، وفي لون خواتمي وشالاتي، وأحبه على خلفية شهاداتي وصوري التذكارية، وأيضًا في لون أوراقي التي أكتب عليها قصائدي
لقد فعلتم كل هذا بي، لكنّني لم أكره اللون الأبيض، ما زلت أنتظر لحظةً أحصل فيها على حبات السكر المتلألئة، لأشرب كأس شاي حلوة، وكلّما رشفت رشفةً منها، سأعلن انتصاري عليكم.



