فكر
مع سقوط نظام الأسد في سوريا، يجد الإعلام نفسه أمام منعطف تاريخي يتمثل في الانتقال من كونه أداة دعائية بيد السلطة إلى منصة للنقاش العام الحر. فبعد عقودٍ من الهيمنة السياسية التي حوّلت البلاد إلى “مملكة الصمت”، حيث خُنقت الأصوات الناقدة، تبرز اليوم فرصة حقيقية لبناء مشهد إعلامي حر وتعددي.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل سيتمكن الإعلام السوري من التحرر من إرث التلقين والتوجيه، وأن يؤسس مجالًا عامًا كما تصوّره هابرماس، بوصفه فضاءً لا سلطان فيه سوى للعقل، حيث تتلاقى الآراء وتتفاعل الأفكار لتوجيه الإرادة الجمعية؟ أم أن المرحلة الانتقالية، وما تحمله من ولاءات سياسية جديدة وفوضى مؤسسية، ستقود إلى إعادة إنتاج الهيمنة الإعلامية، ولكن بصيغ وأطراف مختلفة؟
على مدى عقود، ظلّ الإعلام السوري الرسمي أداة لترويج رواية السلطة الأحادية، يعمل تحت هيمنة كاملة ويخلو من أي هامش للاستقلال أو التعدد. لم تكن الصحافة سوى ذراع دعائية للنظام، تُقصي الأصوات المخالفة وتُعيد إنتاج خطاب سياسي موحّد ومفروض من الأعلى.
غير أن هذا الواقع بدأ يتصدع مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، حيث شهدت الساحة الإعلامية ولادة مبادرات مستقلة انبثقت من قلب الحراك الشعبي، وسرعان ما تطوّرت إلى مؤسسات صحفية احترافية تعمل في الداخل وفي المنفى. وخلال سنوات الثورة الـ14، تبلورت هذه المبادرات كمحاولات جدّية لمنافسة الإعلام الرسمي، عبر تقديم رواية بديلة تعبّر عن واقع الناس وتطلعاتهم، وتكسر احتكار السلطة للخطاب العام.
هذه المنصات تمرّدت على الهيمنة السلطوية، وسعت إلى بناء إعلام جديد يقوم على المهنية والموضوعية، ويعبّر عن صوت الشارع السوري. وقد نجحت في فتح فضاءات للنقاش العام، وطرحت قضايا ظلّت لعقود من المحظورات، مثل الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والمصير السياسي للبلاد. وأثبتت التجربة أن الإعلام حتى في ظل الحرب والانقسام قادر على التحوّل من أداة تلقين إلى مساحة للمشاركة الفاعلة، تحفّز الحوار وتدعم بناء وعي جمعي مستقل.
يعرّف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس “المجال العام” بأنه ساحة للنقاش المفتوح تتشكّل فيها الآراء والمواقف حول قضايا الشأن العام بمعزل عن هيمنة السلطة. في هذا الفضاء المثالي، يراقب المجتمعُ السلطةَ عبر النقد العلني، مما قد يمنع تعسفها ويضمن أن القرارات تتوافق مع احتياجات الناس.
تطبيقًا على الحالة السورية، تبرز الآمال بأن يتحوّل الإعلام بعد التحرير إلى حلبة حقيقية للنقاش المجتمعي؛ أي فضاء عمومياً يناقش فيه السوريون مختلف القضايا بحرية، ويكوّنون رأيًا عامًا قادرًا على محاسبة السلطات. لقد حُرم السوريون لعقود من هذا المجال العام المستقل تحت حكم الحزب الواحد، حيث كانت أي محاولة لنقاش حر تُقمع فورًا. أما الآن، وللمرة الأولى منذ أكثر من 40 عامًا، بات لوسائل الإعلام السورية الناشئة هامش لإعادة هيكلة نفسها بعيدًا عن سلطة الرقابة الأمنية والحزبية.
ولعل المهمة الأبرز أمام الإعلام الحر هي ترميم المجال العام السوري الذي تهشّم خلال سنوات الاستبداد والحرب. يشير أحد الكتّاب السوريين إلى أن الصحافة في المرحلة المقبلة يجب ألا تكتفي بدورها التقليدي كـ”سلطة رابعة” تراقب السلطة السياسية، بل عليها أن تصبح فاعلًا مدنيًا يساهم في رأب الصدع المجتمعي وفي صياغة سردية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات.
رغم الآفاق الواعدة، يواجه الإعلام السوري بعد التحرير تحديات قد تعيق تحوّله إلى مجال عام حر. أولها الاستقطاب السياسي والطائفي الذي يقسّم المؤسسات ويقوّض حيادها، ما أضعف استقلالية الإعلام ومصداقيته. ثانيًا، مشكلة التمويل المرتبط بولاءات سياسية، مما يهدد بتحوّل الإعلام إلى أداة لأجندات خارجية، كما حدث في العراق وليبيا. ثالثًا، الفوضى الأمنية التي تعرّض الصحفيين للعنف والتهديد، في ظل غياب حماية مؤسساتية. رابعًا، غياب التنظيم المهني وضعف الخبرات، نتيجة سنوات من القمع، ما جعل الإعلاميين الجدد عرضة للأخطاء والاختراق. خامسًا، محاولات مختلف القوى المحلية والحكومة فرض هيمنة جديدة، عبر توجيهات سياسية وملاحقات قانونية، إضافة إلى انتشار الشائعات وغياب إعلام مؤسساتي قوي.
هذه التحديات تُنذر بخطر إعادة إنتاج إعلام الهيمنة في ثوب جديد، إن لم تُعالَج بجدية.
رغم كل هذه العوائق، يحمل المشهد الإعلامي السوري ملامح تحوّل واعد يمكن البناء عليه. فالنقاشات التي بدأت تتبلور داخل غرف التحرير والمنصات الرقمية تعكس إدراكًا أعمق لطبيعة الدور الاجتماعي الذي يجب أن يؤديه الإعلام، لا مجرّد ناقل للأحداث، بل مؤسسة تشاركية تُساهم في إنتاج المعنى والتفاهم العام.
تجاوز الاستقطاب والتبعية ليس مستحيلًا، بل يتطلب التزامًا جماعيًا بقواعد مهنية وأخلاقية جديدة، تحترم التعدد، وتضع مصلحة المجتمع فوق أي اصطفاف. وهنا تبرز الحاجة إلى التفكير في حلول عملية، مثل بناء آليات تمويل مستدامة قائمة على اشتراكات القرّاء أو دعم صناديق مستقلة للصحافة، بعيدًا عن التمويل المشروط سياسيًا. كما أن وضع أطر قانونية جديدة تكفل حرية التعبير وتحمي الصحفيين من الملاحقة والتضييق سيكون أساسيًا في ضمان استقلال الإعلام.
من جهة أخرى، لا بد من توسيع دور المجتمع المدني السوري في حماية الصحافة المستقلة إذ يمكن للمنظمات الحقوقية والنقابات والمؤسسات التعليمية أن توفّر بيئة حاضنة للصحفيين، وتدافع عنهم عند تعرّضهم للتهديد، وتشارك في تطوير برامج تدريب مهنية تُعزّز من جودة المحتوى الإعلامي.
تطوّر التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى المعلومات يمنح الإعلاميين أدوات غير مسبوقة لبناء محتوى مستقل وتفاعلي، يخلق مساحات للنقاش الحر. في هذه اللحظة الفارقة، يمكن للإعلام أن يكون حاضنة للوعي الجديد، ومحرّكًا لفعل جماعي يرسّخ ثقافة المساءلة والمشاركة، ويُمهد لولادة فضاء عام حقيقي، طالما افتقدته سوريا لعقود.
مع ذلك، لا يمكن إنكار الزخم الذي تشهده الساحة الإعلامية اليوم، حيث بات هناك جيل جديد من الصحفيين السوريين أكثر وعيًا بمخاطر التبعية والانقسام، وأكثر إيمانًا بقيم المهنية والاستقلال. كما أن تعدد المنصات، وانفتاح الفضاء الرقمي، يعزّزان فرص التعبير والتجديد، ويوفّران بيئة خصبة لنمو المبادرات الإعلامية المستقلة.
وجود مؤسسات مثل تلفزيون سوريا، وسوريا 24، وعنب بلدي، يبرهن أن بالإمكان تجاوز العقبات وبناء إعلام يُنصت للناس لا للسلطة، ويعيد الثقة بين المواطن والخطاب العام. التحديات حقيقية، لكنها ليست قدرًا، والمستقبل مرهون بالإرادة الجماعية لاستثمار هذه اللحظة في تأسيس إعلام يليق بسوريا جديدة، حرة وتعددية.
يحضر صحفي شاب مؤتمرًا صحفيًا في قلب العاصمة السورية المحرّرة. أمامه عشرات وسائل الإعلام المحلية التي لم يكن من الممكن وجودها قبل سنوات، ويستمع إلى ممثل وزارة الإعلام وهو يتحدث عن مئات الطلبات المقدّمة من مؤسسات صحافية سورية مستقلة للحصول على تراخيص للعمل داخل البلاد. هذا المشهد الذي كان مستحيلًا في عهد النظام السابق يعكس بوضوح تحوّلًا نوعيًا في المشهد الإعلامي بعد سقوط النظام، ويشكّل انتصارًا رمزيًا لحرية الصحافة طالما كانت غائبة. فهل يمكن لهذا الانفتاح أن يشكّل مقدّمة لبناء مجال عام حقيقي؟ أم أننا أمام إعادة إنتاج لنفس البنى الإعلامية بوجوه وأسماء جديدة؟
رغم التحديات الجمّة التي يواجهها المشهد الإعلامي السوري، برزت على الساحة ما بعد التحرير تجارب إعلامية أدت أدوارًا متمايزة ومتكاملة في رسم ملامح هذا التحول، كان لكل منها طابعها الخاص ومقاربتها المميزة. من بين هذه التجارب، شكّل تلفزيون سوريا منصة واسعة التأثير، نجح في بناء جمهور عريض داخل البلاد وخارجها، بفضل تغطيات سياسية ومجتمعية تتسم بالمهنية وتتمتع بسقف مرتفع من الحرية. اتخذ التلفزيون من البرامج الحوارية الجريئة وسيلة لإشراك طيف متنوع من الشخصيات السورية في النقاش العام، ما عزّز من تجسيد فكرة “المجال العام” حيّزاً للتفاعل وتبادل الآراء. لم يكتف هذا المنبر بنقل الخبر، بل سعى لتحفيز النقاش وتمثيل تنوّع المجتمع السوري، رغم ما يواجهه من تحديات في التمويل والاتهامات المتكررة بالاصطفاف السياسي.
في سياق موازٍ، برزت منصة سوريا 24 كمحاولة جادة لكسر مركزية الخطاب الإعلامي التقليدي، حيث سعت إلى نقل أصوات المناطق المهمشة والشارع السوري على تنوعه. اعتمدت المنصة على شبكة مراسلين محليين وركّزت في تغطياتها على القضايا التنموية والحقوقية والاجتماعية، من خلال مقاربة ذات طابع نقدي وتفاعلي. تعمل سوريا 24 مختبراً للتجديد المهني في العمل الإعلامي، مستفيدة من الأدوات الرقمية لإشراك الجمهور وتحليل اهتماماته، ما جعلها في قلب التحولات التي يشهدها الإعلام السوري الجديد.
أما صحيفة عنب بلدي، فهي إحدى أولى التجارب الإعلامية المستقلة التي انبثقت من رحم الثورة السورية. انطلقت من مدينة داريا، ونجت من التضييق والقصف لتتحول إلى صحيفة مؤسساتية تصدر بانتظام وتحظى بسمعة مهنية راسخة. أولت الصحيفة اهتمامًا بالغًا بالقضايا المحلية والتحقيقات الاستقصائية، وقدّمت محتوى تحليليًا ثريًا أسهم في تغذية النقاش العام. تمثل عنب بلدي تجربة حيّة على إمكانية استدامة الصحافة المستقلة حتى في ظل ظروف الحرب القاسية.
وإلى جانب هذه المنصات الثلاث، تبرز تجربة مجلة الجمهورية، التي انطلقت من المنفى، لكنها واصلت تأدية دور فاعل من خلال تقديم خطاب تحليلي نقدي رفيع المستوى. ساهمت المجلة في تعزيز النقاش العام حول قضايا الشأن السوري عبر مقالات معمقة وسجالات فكرية، ما يجعل منها نموذجًا مؤثرًا لإعلام مستقل يراهن على الوعي والمعرفة كمدخل لإعادة تشكيل المجال العام السوري.
تشكل هذه التجارب الأربع نماذج متباينة، لكنها تكمل بعضها البعض، وتدلّ على أن الإعلام السوري الجديد رغم العثرات قادر على المساهمة في تأسيس مجال عام تواصلي، إذا توفرت له شروط الحماية والاستقلالية.
فرصة تاريخية، رغم التحديات، ما يزال الباب مفتوحًا أمام الإعلام السوري لاقتناص هذه اللحظة التاريخية وتغيير دوره جذريًا في مرحلة ما بعد التحرير. إن نجاح عملية التحول الديمقراطي في سوريا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوجود إعلام مستقل وذي مصداقية. إعلامٌ كهذا، متحرر من الهوى الطائفي والضغوط السياسية والمال السياسي، يمكنه خلق نقاش عام فعّال يدعم الإصلاح الديمقراطي وينير درب المجتمع نحو المستقبل.
لقد بدأت ملامح التغيير الإيجابي بالظهور فعليًا؛ فعلى سبيل المثال، تمكنت صحيفة “عنب بلدي” أخيرًا من إعادة إصدار طبعتها الورقية داخل دمشق بعد انهيار قبضة الرقابة، في خطوة تعكس انفتاح المجال العام أمام الصحافة المستقلة. وأقيمت غرف أخبار جديدة في العاصمة تربط الصحفيين بالميدان والجمهور مباشرة، بعد سنوات من العمل من المنفى. هذه التطورات تُعد انتصارًا معنويًا لحرية الصحافة، وفرصة لإعادة جسور الثقة بين الإعلام والجمهور السوري.
يجد الإعلام السوري نفسه اليوم في مفترق طرق مفصلي: فإما أن ينجح في ترسيخ نفسه كفضاء عام حر ومسؤول، يعبّر عن تطلعات المواطنين على تنوعهم، ويؤدي دور الرقيب والشريك في بناء سوريا الجديدة؛ وعندها سيغدو ركيزة أساسية من ركائز التحول الديمقراطي، كما أثبتت التجارب حول العالم. أو أنه سيسقط في فخ الولاءات والاصطفافات، فيعيد إنتاج النسخة ذاتها من الهيمنة الإعلامية التي عرفتها البلاد لعقود، ولكن بأطراف جديدة وشعارات براقة.
إن المخاض الحالي للإعلام السوري محفوف بالمخاطر، ولكنه أيضًا واعد بالأمل. الكرة الآن في ملعب الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الناشئة لصناعة تقاليد جديدة في الشفافية والتعددية والمهنية. كما أن الجمهور السوري، بتحرره من خوف الماضي، بات شريكًا في مطالبة الإعلام بمساحة حقيقية لصوته.
إن بناء مجال عام سوري بالمعنى الذي قصده هابرماس أي فضاء للنقاش الحر وتشكيل القناعة العامة بعيدًا عن الإكراه ممكن التحقق، إذا توفرت الضمانات السياسية والقانونية لحماية حرية الصحافة، وإرادة مجتمعية واعية بدور الإعلام في الرقابة والبناء.
عندها فقط، لن يكون الإعلام السوري “المحرَّر” مجرد صدى لولاءات جديدة، بل منبرًا وطنيًا مفتوحًا على ديمقراطية ناشئة تولد من رحم المعاناة. والاختبار الحقيقي بدأ الآن: هل يرتقي إعلامنا إلى مستوى اللحظة التاريخية؟ السنوات القليلة القادمة كفيلة بالإجابة، ويبقى الرهان معقودًا على شجاعة الإعلاميين ووعي المجتمع في عدم التفريط بهذا المكسب الثمين.