يُعَدّ الإعلام مرآة الشعوب الأولى في فهم واقعها المعاصر، مهما تغيّرت وسائله أو ظهرت بدائل جديدة له. وقد ظلّت المنصات والشبكات الإخبارية حاضرة في منطقتنا العربية، حتى بعد الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي. وغالباً ما تحوّلت وسائل الإعلام إلى منصّات استقطاب لجمهور معيّن، يسعى كل منها إلى تعزيز حضوره، والحفاظ على جماهيره، وتوسيع قاعدة متابعيه بشتى الوسائل. إلا أنّ بعض هذه الوسائل انزلقت إلى الشعبوية، فصارت تُروِّج لما يودّ الناس سماعه، أو لما يريد صاحب النفوذ أو المال بثَّه من خلالها.
ويمرّ الإعلام السوري حالياً بمرحلة مفصلية تختلف عن سابقاتها، وهي مرحلة بدأت منذ الثامن من ديسمبر الماضي، ولا تزال تنمو ببطء شديد، متأقلمة مع الظروف الراهنة التي تمرّ بها سوريا، من تغيّرات جذرية على مستويات السياسة والاقتصاد، وغيرها من المجالات الحيوية المرتبطة بحياة السوريين. ورغم ذلك، فقد أصبح التباين واضحاً بين ما يريده الناس من الإعلام، وما يستطيع الإعلام ترسيخه، وهو تباين يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، على الرغم من الحذر الشديد الذي تتّبعه وسائل الإعلام في خطابها.
ما بين العقل والعاطفة
رغم أنّ الشعب السوري، بكل مكوّناته، ينظر نظرة بطولية مستحقّة إلى القادة الجدد، فإن الإعلام السوري لا يزال يحاول الحفاظ على موقعه المتوازن، وتقديم خدمة إعلامية لجمهور متنوّع الأطياف والأفكار والمذاهب، كما عهد نفسه، دون الانجرار وراء العاطفة الجياشة أو التصلّب العقلاني.
وتسعى وسائل الإعلام إلى الوقوف في منطقة رمادية بين العقل والعاطفة، إذ تدرك أن العاطفة اليوم هي المحرّك الأول للجمهور، وأن عامل الزمن كفيل بتخفيف حدّة هذه المشاعر، بشرط أن يُدار الخطاب الإعلامي بذكاء وحذر بالغَيْن، في محاولة لتمرير الأفكار والانتقادات دون الاصطدام بالجمهور العاطفي. أليست العواطف الجيّاشة مستحقّة؟ بلى، إنّ العواطف التي يشعر بها السوريون تجاه القادة الجدد مستحقّة. فمن ذا الذي لا يُحبُّ مخلّصه؟ ومن لا يكون أسيراً لمَن أسدى له معروفاً في أشدّ لحظات الضيق؟ عندما يُنقذ الإنسان من وطأة حكم بعثي عبثي دام لعقود، فمن الطبيعي أن تسيطر عليه مشاعر الامتنان العميقة، التي يصعب تقليلها أو تجاوزها.
إذا كانت شعوبٌ في بعض الدول الغربية تُقدّر قادتها لأنهم حسّنوا من مستوى معيشتها، وزادوا من رواتبها، فكيف بشعبٍ كان يُذبح ويُنهب كل يوم، ثم جاء مَن خلّصه من طغيان وعدوانٍ طال كل تفاصيل حياته؟ إنّ هذه المشاعر إنسانية أصيلة، ومن الظلم تجاهلها أو التقليل منها.
لا يجب الاستسلام للعواطف الجيّاشة ومع ذلك، فإنّ الاستسلام الكامل للعاطفة قد يُنتج نوعاً من التشدّد والولاء غير المتوازن، مما يصعّب على وسائل الإعلام أداء دورها المهني. فالإعلام السوري، الذي سعى خلال الثورة إلى نقل معاناة الإنسان السوري إلى العالم، لا يعني اليوم انتهاء مهمته أو تحوّله إلى أداة تصفيق للسلطة الجديدة دون وعي.
فالنكبة التي أوصلت سوريا إلى حالها الحالي، كانت ـ جزئياً ـ نتيجة لتغييب الإعلام وفصله المتعمّد عن معاناة الناس وهمومهم. ومن هنا، ينبغي على كل حكيمٍ وذو بصيرة أن يدرك هذه الحقيقة: إن إعلام الثورة لم ينشأ ليخدم سلطة، بل لخدمة الشعب السوري واحتياجاته، وقدّم في سبيل ذلك تضحيات جسيمة. ولا يجوز بعد أربعة عشر عاماً من التشريد، والتهجير، والحصار، والتجويع، أن يُطلَب من الإعلام أن يتحوّل مرة أخرى إلى صوتٍ للسلطة، متجاهلاً حجم المعاناة الطويلة التي عاشها السوريون.
مسك الختام
لقد ذاقت سوريا، لأكثر من عقد، مرارة العيش القاسي؛ نتيجة لصمتٍ إعلاميٍّ مقيت، حجب صوت المواطن وطمس احتياجاته. واليوم، ينبغي على سوريا ألّا تعيد أخطاء الماضي، ليس فقط من خلال القوانين والتشريعات، بل عبر سلطةٍ رابعة، فاعلة، تراقب الأداء، وتصحّح الانحراف، وتنقل معاناة السوريين، الذين لا يزال كثير منهم يعيش في خيامٍ، أو يعاني فقراً مدقعاً، وشتاتاً خلفته الحرب العبثية التي شنّها النظام البعثي على شعبه.