تأملات

إلى دفيئات ماثيو في دوفليه الفرنسية!

يونيو 14, 2025

إلى دفيئات ماثيو في دوفليه الفرنسية!

تصلني رسالتك يا ماثيو وأنا أقرأ رواية الغريب لألبير كامو، واكتشفت بأنّي كنتُ أنسى كثيراً بأنّها رواية في يدي وأنني قارئة، إذ كنتُ أقول لبطلها (مورسو) الذي جلس ليلةً كاملة بجانب جثمان أمّه قبل دفنها، (أنت محظوظ هيّا احتضنها)، وحين شعر بالنعاس قلت له: ( لا تنعس أيها المغفل، يمكنك أن تنام في ليالٍ أخرى إلا هذه الليلة، ولا تشرب السجائر، لأنّك لا تحتاج إلى تهدئة حزنك، يليق بالأمهات أن يحزن أبناؤهن عليهن حزناً عظيماً)
في لحظة ما ضحكتُ وأنا أقول لنفسي: ماذا تفعلين، إنّها مجرّد رواية يا آلاء.

هل هو الخوف من عدم وداع من نحب؟ أم لأنّ الحرب لم تمنحنا فرصة لائقة للوداع، تحدثني عن الندى العالق في تراب مزرعتك في دوفليه وأحدثك عن الركام الذي اختلطت به الأشلاء والأماكن حتى تغيرت أشكالُ الطرق، فأكتشف أنني أسأل مئة مرة في الطريق نفسه: أين أنا؟
ويبدو محزناً أنّك جعلتني أتذكرُ ماهية الأرض أي شكلها الأصليّ، في أنّها مكانٌ يطلع فيه الورد والشجر والعشب والطماطم الحمراء على حد وصفك تلك التي لم نرها لشهور طويلة، لكن من الجيّد أنني لم أزل أحتفظ بملمسها الناعم في ذاكرتي الشاعريّة.

يقتلني اللون الرماديّ، إنّه يتسع شيئاً فشيئاً في بقعةٍ جغرافية صغيرة، هي الأدمى على وجه الأرض!

من الجيد أن تستطيع رسالتك العبور من تحت أرتال القذائف والصواريخ، خفت أن يعترضها صاروخ أو أن تحرقها شظية لاهبة، فالصاروخ الواحد يحمل آلاف الشظايا، لا يحب الموت المركّز، ينفجر إلى مئات القطع كي يقتل أكبر عدد ممكن، تقنية حديثة لموت أكثر وإصابات أوجع، أستطيع أن أهنئكَ
لقد نجت رسالتُك!

نسيتُ شكل الأرض
هذا أكثر ما أوجعني بعد قراءة رسالتك، ورقَّ قلبي لدقيقةٍ أحسّ بها الندى على ورقةٍ خضراء يانعة، فلا وقت في غزّة كي يتنفس الصبح، فتندى الأوراق.

وإذا علق الندى على حذائك، فأنت محظوظ، فأحذيةُ أهل غزة لم تحظَ بهذا، غالباً تلطخت بدماء الشهداء أو أصبحت وسائد للأمهات بعد أن دفنوا أبناءهن وتركوا لهن أحذيتهم تذكاراً أخيراً، في إبادة عظيمة كهذه، لا تملك الكثير من الأشياء لتتركها كتذكار لمن تحب، غالباً يقصفون بيوتنا ويطحنونها تماماً أو يحوّلون الأجساد إلى أشلاء فإذا حظي المحب بحذاء حبيبه فتلك فرصة نادرة وحظ عظيم!

بدأ الندى في غزّة يتشكل بصورٍ أخرى مختلفة:
– أرقاً على عيون الآباء الذين لا يستطيعون جلب الطعام لأطفالهم الذين يتضورون جوعاً، حتى قصص قبل النوم لا تستطيع أن تتحول إلى رغيف خبز في أفواههم
– خنجراً حادّاً في الذاكرة، يذكّرك أنّ الخيمة ليست بديلاً عن البيت، وأنّ شرفتكَ المنزلية حين يزورها الندى يتفتح قلبك جداً، وعلّني تمنيتُ أمنية:
( أعيدوا لي شرفة منزلي لأحسَّ بالندى، فربّما عبر عليّ صباحٌ ذات يوم دون أن أنتبه له، أعطوني فرصةً أخيرة لأنتبه، وأشعر بذلك الإحساس الجميل، أريدُ أن أحسّ الندى بأصابعي على شتلات شرفتي ولو لمرة أخيرة)

يؤلمني أن يتعامل العالم مع غزّة على أنّها مدينة للموت، ويؤلمني أكثر أن يدفن أطفالي الأربعة تحت ركام منزلهم بتلك العنجهية النازية
وأتساءل حين تنطفئ ضحكة الأطفال ماذا يظل في بال المدينة؟
لقد كانت طفلتي أوركيدا حياة للحياة، مختلفة وجميلة كاسمها تماماً، جسدها رقيق ووجهها ناعم للغاية، حين أتخيل أنّهم قصفوا فوقها منزلا بثلاثة طوابق، أُصَابُ بالرعب.
لكنني أُثبّتُ نفسي بأنّها حيّة كما أخبرنا الله عزّ وجل في القرآن الكريم “وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ” (سورة البقرة – الآية 154).

إنّ أوركيدتي تنمو وتتفتح كل يوم، لا تستطيع صواريخ الاحتلال أن تقتلها ولا تستطيع عربات جدعون أن تُخرجها عنوةً من أرضها، فقد تحوّلت إلى نبض في قلبي وترددات في روحي وذرات سرمدية تسري في الهواء والماء والأرض.

سيفشلون دائماً في قتلنا،
لأنّ إيماننا أننّا نعيش في أرضنا ووطننا فلسطين يمنحنا الحياة الخالدة.

(هذه الرسالة هي رد على رسالة الكاتب الفرنسي ماثيو يون وقد كتب لي رسالة مؤثرة بعد قراءته لقصيدتي أوركيدا المترجمة إلى الفرنسية في الانطولوجيا غزة أهناك حياة قبل الموت والتي أعدها الشاعران المغربيان عبداللطيف اللعبي وياسين عدنان)

رسالة ماثيو مرفقة عبر الرابط التالي:

https://tinyurl.com/2s49k6ft

شارك

مقالات ذات صلة