علي السليمان
في شهر مارس الماضي، أُبرم اتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، ينصّ في إطاره العام على وحدة سوريا ودمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن مؤسسات الدولة. مع الإعلان عن الاتفاق، انقسمت الآراء بين متفائل بنجاحه، وموقن بفشله، ومشكك في نوايا مظلوم عبدي، ومخوّن له.
بينما ذهب آخرون إلى تعداد التحديات والمكاسب الممكنة للحكومة الجديدة. إنه بحقّ أهم حدث جرى منذ سقوط النظام الأسدي البائد، إذ يحمل مكاسب هائلة لمستقبل سوريا واستقرارها. ومن شأنه أن يكمل الفسيفساء السورية، ويعيد التنوع العرقي والديني والفكري الذي تتميز به البلاد. كما يعيد نحو أربعة ملايين شخص إلى عهدة الدولة السورية، ويستعيد قرابة ثلث مساحة سوريا بما تحويه من ثروات طبيعية وزراعية ومائية، مغلقاً الباب أمام محاولات قوى محلية لفرض حكم ذاتي.
ومع ذلك، فإن غياب الحديث عن القضية الكردية وتجربتهم التاريخية المريرة مع النظام السوري يشكل فراغاً فادحاً في فهم مشهد الاتفاق الحالي. اقتصر الحديث في معظم النقاشات على مظلوم عبدي وقوات سوريا الديمقراطية، وتم تصويره كممثل للكرد في شمال شرق سوريا، وهو تصور خاطئ.
فالحركة السياسية الكردية النشطة، الممثلة بمعظم الأحزاب الكردية (المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي)، اتفقت مؤخراً على مطالب محددة ستناقشها مع الحكومة الجديدة عبر وفد موحد، مما يثبت أن هناك طيفاً واسعاً من الكرد خارج عباءة قوات سوريا الديمقراطية. لهذا، فإن النقاش الجاد يجب أن ينتقل من نجاح أو فشل الاتفاق، إلى معالجة الجذور التاريخية للقضية الكردية والظروف التي دفعتهم للمطالبة بالحكم الذاتي.
يشير المؤرخ السوري سامي المبيض إلى أن الهوية السورية بدأت تتبلور عام 1918، حيث تبلورت في أوساط النخبة والطبقة الوسطى. وفي 1919، عُقد المؤتمر السوري العام الذي أسس لمفهوم الدولة السورية الجامعة لكل أطياف المجتمع. الكرد، باعتبارهم ثاني أكبر قومية في سوريا، لم يكونوا معزولين عن المجتمع السوري، بل منخرطين اجتماعياً وثقافياً، وحتى سياسياً.
وقد تولى شخصيات كردية رئاسة الدولة خلال المرحلة التعددية، مثل: حسني الزعيم، وفوزي سلو، وأديب الشيشكلي، في مشهد يدل على غياب العصبية العرقية في تلك الفترة.
مع الوحدة السورية المصرية عام 1958، بدأ أول أشكال التهميش الرسمي للكرد، عبر إغلاق أحزابهم وحظر أنشطتهم الثقافية. لكن التصعيد الحقيقي بدأ مع وصول الأحزاب القومية إلى السلطة. في 23 أغسطس 1962، أصدر الرئيس السوري ناظم القدسي مرسوماً بإجراء إحصاء استثنائي في محافظة الحسكة. أُجبر الكرد خلاله على إثبات وجودهم في سوريا قبل عام 1945 خلال يوم واحد فقط. فكانت النتيجة: تجريد حوالي 120 ألف كردي من الجنسية، وتصنيفهم كـ”أجانب” أو “مكتومي القيد”، مع حرمانهم من أبسط الحقوق المدنية والسياسية.
لاحقاً، ومع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، استمر النهج العنصري ضد الكرد: منع الحديث باللغة الكردية في الأماكن العامة. منع تسجيل الأسماء الكردية. حظر الاحتفال بعيد نوروز دون إذن أمني. منع تشغيل الأغاني الكردية في الأعراس إلا بموافقة أمنية. تزامن ذلك مع تنفيذ مشروع “الحزام العربي”، حيث تم تهجير الكرد قسراً من قراهم واستقدام قبائل عربية لتوطينها قسراً أيضاً في الشمال، بهدف تقليص الوجود الكردي.
استمر الكرد في المطالبة السلمية بالاعتراف بهم وبحقوقهم الثقافية. لكن عام 2004 شهد نقطة تحول مهمة، عندما دبّر النظام أحداثاً لإشعال فتنة في مناطق الكرد، ما أدى إلى انتفاضتهم واعتقال الآلاف منهم. عندها، أدرك الكرد استحالة العيش تحت سلطة استبدادية، وبدأت الهوية السياسية الكردية بالتبلور، مع مطالب واضحة بحكم لا مركزي.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، شارك الكرد في الحراك الشعبي، وشكلوا عدة تنسيقيات ثورية. وتأسس “الائتلاف الوطني الكردي” (ENKS) في أكتوبر 2011 لتوحيد مطالبهم السياسية ضمن إطار الثورة السورية. لكن القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، مع مرور الوقت، خطفت الحراك الشعبي الكردي، ووجهته بعيداً عن المسار الثوري.
بعد معاناة دامت لعقود، بين إنكار الوجود، وسلب الهوية، والحرمان من الجنسية، والتعليم، والعمل، والسفر، فإن الكرد اليوم يستحقون أن تنصت الدولة الجديدة إلى صوتهم الحقيقي، لا أن يختصر تمثيلهم بشخص أو تنظيم واحد.