“في قفصٍ كأيّ حيوان
بين جدرانِه الأربعة
يجتمعُ المتفرجون من حولِه، يُلَوِّحون ويتبسمون،
ولا يفوتُ بعضُهم التقاطَ الصور
يروحُ ويجيءُ متخبطًا، بالقَدْرِ الذي يسمحُ به الطوقُ والسلسلة
أو بالقَدْرِ الذي يتجاوزُ عنه الحارسُ المراقبُ كلَ حركةٍ تأهبًا للانقضاضِ عليه لحظةَ تَخَطّي الحد
وذاك الحدُ لا يعرفُه هو، ولا الحارسُ نفسُه (إنّما يتقرّر عشوائيًّا كاسرًا النمط؛ فالإرباكُ عقوبةٌ هو الآخر)
في يدِ الحارسِ عصا، يستعدُ بها لتقويمِ سلوكِ كلبِنا لو أزعجَ الجمهور
هُم هُنا للاستمتاع، ونباحٌ غيرُ مستساغٍ أو حركةٍ عصبيةٍ، ربما يُؤوّلُ على أنه شِكايةٌ أو محاولةُ تمردٍ، قد تُفسد المشهد
لذا عليه البقاءُ دائمًا تحت سقفِ التوقعِ.. وإلّا: العقوبةُ موجعة.
كعادةِ الصغار-أولئك الذين يَفرون من كاملِ الحيّ لمجردِ علمِهم بوجودِه حُرًا بالجوار،
يتناوبون الآن إيذاءَه…
يُلْقونَه بحجرٍ، فضلاتٍ، أو -حتى- يقتربون لأدنى درجةٍ، ثم يَركلون القفصَ لإفزاعِه أو البصقِ عليه
{الحارسُ يحتفظُ بسماجةِ تَبسُّمِه. ما يهمُه أن يستمتعَ الحضور. وها هم يفعلون}
كان يحلو له -بين فينةٍ وأختها- أن يستدرجَهم بهدوئه واستسلامِه المُدَّعى
قبل أن يفصحَ عن ثورتِه، فينبحُ فجأةً، كأنما يُهاجمُهم فيهرولون
رغمَ كونهم يعرفون -يقينًا- أنَّه في السلاسلِ لم يَزل، وأن بينَهم وبينَه هذا القفصَ الحديدي
لكن نباحَهُ -مجردُ صوتِه- كان يبعثُ في ذاكرتهم من هو.. من كان..
لم يكن ساعتها يَسلَمُ من عصا الحارسِ، أو حِرمانَه من عدةِ وجباتٍ، عقابًا
لكنَّه قررَ الاستمتاعَ، ولو، بألمِه..
كان يُحوّلُهم لعبَته، كما ظنوا -مُذ حبسوه بقفصِهم- أنَّه أصبحَ لعبتهم.”
——-
تطلبُ الجميلة أن أحكي لها “حدّوتة” وهي في السرير؛ لتنام.
سأحكي “الكلب الحيران” هذه الليلة، أخبرها ثم أتراجع، تحايلاً، وأحكي لها أخرى، كتبتها أيضًا في المعتقل، لكنّها ابنة الأمل في قادمٍ لم يأت بعد، أما الكلب الحيران، فقد كان أنا في قفص الاتهام، بإحدى محاكماتي الكثيرات قبل سنين، كتبتها في زنزانتي فور ما عدتُ من المحاكمة، أستعيدها الآن، وأنا أفتّش عن حدّوتة للجميلة التي أنوّمها، ولا أجد فيها حتى ما يختلفُ على أيّ صورةٍ بين ما كنته، وما في هذه “الحدّوتة”.
إذ كانت القاعة ساحة سيرك، والقفص بؤرةُ مسرحته مشهدًا مكرورًا محفوظَ الفقرات أداءًا ومآلاً، والمهرّج على المنصّة لا يُنتظر منه خلاص، ولا حتى مفاجأة. وأنا –في داخل القفص– كنت أفكّر: كيف يُمكن للجسد أن يُختَزل، أن يُنسى ككائنٍ بشريّ، كحياةٍ كاملة، ويُعاد تشكيله كرمز: تهديدٌ قديمٌ يُرادُ تحنيطه، حتى لا يُخطئ أحدٌ ويظن أن ما حمله قديمًا يمكن استعادته.
لا حال يدوم، هذا ما لم أقله في القصّة، لكن قالته الحياة على كلّ حال، ولعلّ قادمها يؤكّد كما لا يتوقّع الكلّ.
و”توتة توتة.. لا تنتهي الحدّوتة”