سياسة

السيولة السورية: العلاقة مع السلطة المتشكّلة خارج ثنائية الموالاة والمعارضة

أبريل 18, 2025

السيولة السورية: العلاقة مع السلطة المتشكّلة خارج ثنائية الموالاة والمعارضة

لا يكاد يخلو النقاش السوري المُسجَّل – كتابيّاً أو سمعيّاً أو بصريّاً – من منطقين يطفوان جنباً إلى جنب مع كل واقعة سياسية في ثنائية من الموالاة والمعارضة. للوهلة الأولى، يبدو هذا الأمر ممكناً وطبيعيّاً، وقد يكون كذلك؛ إذ إن وجود هذه الثنائية شائع في فضاء الدولة المستقرّة ذات السيادة.

 

 

 لكن نظرة متفحّصة قد تفسح المجال لطرح السؤال التالي: هل هناك إمكانيّة لوجود المنطق التقليدي للتأييد والمعارضة في العلاقة مع السلطة المتشكّلة ضمن الفضاء السياسي-الاجتماعي السوري الحالي؟ يُمهّد هذا السؤال لاشتقاق سؤال آخر منه: هل هناك سلطة بالمعنى الشائع في سوريا حتى يكون هناك موالاة ومعارضة بالمعنى الشائع؟ من نافل القول إن السلطة بلا رقابة وتقويم ومجابهة ضمانة لفساد الفرد والمجتمع وإفسادهما، لكن لا رقابة ولا تقويم ولا مجابهة من دون عقل.

 


يهدف النص إلى طرح أسئلة سورية وأجوبة سورية لمسألة سورية: ماذا يُؤيَّد، وماذا يُعارَض؟ وكيف تُعايَرُ المسؤولية بلا إفراط أو تفريط؟ وهل هناك نقطة “تنتهي” فيها الثورة مقابل أخرى “تبدأ” منها الدولة؟ تُترك بعض الأسئلة بلا أجوبة؛ فأحياناً يكون السؤال أهمّ من الجواب، وأحياناً تكون عمليّة تشكيل الإجابة عند الفرد والجماعة لازمة بقدر لزوم وجود الجواب نفسه.

 

 

 

تأييد ومعارضة ماذا؟

 

شاعت في السنوات السابقة أدبيّات تُوصَف الحدث السوري بمناظير معرفيّة وسياسيّة مختلفة، ودرجت معها جملة من المصطلحات: المعارضة والثورة، السلطة والنظام، النظام السوري والنظام الأسدي، الدولة السورية والدولة الأسدية، وغيره. ينطلق كاتب هذه السطور من موقف معرفي وسياسي مفاده أن الشعب السوري ثار ضد الدولة الأسدية. 

 

وبهذا المعنى، فإن هذه المقولة تضمر فهماً وعملاً مفاده أنّه لا وجود للدولة السورية بوجود الدولة الأسدية. يعني هذا، فيما يعني، أن وصول القوى الثورية لسدّة الحكم في دمشق لا يعني فقط ضرورة اجتثاث الأسد أو سلطته أو نظامه فقط، بل دولته كذلك. بناءً على هذا التأسيس، فإن تحرير سوريا غير ممكن دون تحطيم الدولة الأسدية، وبالتالي المؤسسات المتفرّعة عنها، ومن بينها مؤسسة السلطة؛ وذلك يعني أيضاً أن تحرير سوريا من الدولة الأسدية يستدعي، فيما يستدعي، بناء الدولة، وبناء المؤسسة، وبناء النظام السياسي، وبناء السلطة.

 


يمكن لسائل أن يسأل: إن كان الهدم يُحتّم البناء، إذ إنّ التحرير لا يمكن أن يأتي من فراغ، فمتى بدأ الهدم، ومتى بدأ البناء؟ هناك وجاهة في القول إنّ عملية الهدم ترافقت مع عملية البناء منذ اليوم الأول للثورة السورية: هُدِم الصمت بالكلام، وهُدِم تفكيك المجتمع بالتنسيق، وهُدِمت القبضة الأمنية بالتحرير المسلّح، وهُدِمت المنظومة التعليمية المُفسِدة للإنسان بالمنظومة التعليمية البانية له؛ أمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى، ومسيرة لم تنتهِ منذ يومها الأول، طالت كل مفاصل الحياة السورية، ووصلت حدّ بناء نموذج مؤسّسي في الشمال المحرّر انطلقت منه الجولة الأخيرة من حرب التحرير. 

 

وصلت عملية الهدم ذروتها بهزيمة الدولة الأسدية ودحرها، وانتقلت عملية البناء – ضمن هذا التأطير – إلى فضاء اجتماعي وسياسي أوسع؛ إلى فضاء بناء الدولة، الدولة الوليدة من صيرورة التراكم التي انطلقت في الثامن عشر من آذار. هكذا، فإن الدولة والمؤسسة والسلطة، في الإطار التجريدي، في حالة سيولة، وفي الإطار الملموس في حالة هدم وبناء متداخلة ومتشابكة.

 


هُزِمت الدولة الأسدية ودُحِرت عن التسيُّد على سوريا، وصعدت المؤسسة الثورية لسدّة الحكم. إلا أن هزيمة الدولة الأسدية لا تعني بالضرورة انتهاء مفاعيلها وآثارها المتغلغلة في الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي السوري، وصعود المؤسسة الثورية لا يعني بالضرورة استبدالها التامّ للمؤسسة الأسدية. يتفرّع عن هذا المنطق وجود مؤسسة ثورية في حالة اتّساع، وفواعل مؤسسة أسدية منحسرة، وسلطة ثورية في حالة اتّساع، وفواعل سلطة أسدية منحسرة. فهل يمكن التعامل هنا بمنطق التأييد والمعارضة لكتلة صلبة – لحد معقول – تُسمّى السلطة؟ وأين “تبدأ” مسؤولية السلطة المتشكّلة عن المؤسسة الثورية، وأين “تنتهي”؟

 

 

 

المسؤولية: خارج الإفراط والتفريط

 

إن كان ولابد من تلمّس حدود مسؤولية الفاعل السياسي – أيّ فاعل سياسي – وهي لا بدّ كذلك، وجبَت معاينة سؤال المسؤولية، دون إفراط (وهو ما يفتح الإجحاف بابه واسعاً)، ودون تفريط (وهو ما يفتح التطبيل بابه واسعاً)؛ أي دون تحميل ما لا يُحتمل، أو التهاون بما لا يحتمل التهاون. إلى ذلك، يمكن النظر في أربعة عناصر قد تُشكّل عوناً في الإجابة عن سؤال مسؤولية السلطة المتشكّلة: الهويّة والموقع، القوة، الأولويّات، الخطوط الحُمر.

 


أولاً، الهويّة والموقع. إن نُظر للأسدية على أساس أنّها أُسُّ قوى الباطل المحلي في الفضاء السياسي-الاجتماعي السوري على مدى أكثر من خمسة عقود، وهي القوّة المحليّة التي هيمنت بشكل شبه تامّ على سوريا لأكثر من أربعة عقود، فإن الثورة السورية هي أُسُّ قوى الحق الداخلي المناهض لذلك الباطل، وهي القوى التي قارعت هذا الباطل حدّ إسقاطه. تبعاً لذلك، فإن موقع القوى الثورية الأساسي هو موقع الفئة المُقاوِمة، وهي قوى راكمت القوة وتتحمّل مسؤولية القوة التي راكمتها. إذاً، فإن السلطة المتشكّلة تُعايَن بمنظار المسيرة الثورية التي تُراكم – بصوابها وما لا بدّ فيها من خطأ – خبرةً، وقوةً، وغيره.

 


ثانياً، القوة. من الممكن القول إن قوة السلطة تنبع بشكل أساسي من قوة الدولة، والأخيرة تُقاس بعوامل، منها الموارد والقدرة. فإذا كان العتاد العسكري والناتج المحلي أمثلةً على الموارد، فإن القدرة تتّصل بالرؤية، والاستراتيجيات، والخطط التي تُوظّف تلك الموارد بالشكل الأمثل لخدمة الرؤية. يحدث ذلك من خلال النظام السياسي، وطواقم صنع القرار، وشغل مؤسساته، وغيره. في الشرط السوري الحالي، تتأثر القدرة المحدودة أصلاً بعوامل عديدة؛ منها أنّ النظام السياسي قيد التشكّل، وطاقم المؤسسة الثورية محدود نسبيّاً مقارنة بالحاجة لبناء المؤسسات أو تشكيلها أو تعبئتها أو تطهيرها، وتعدّد الفاعلين المحليين والدوليين في الفضاء السياسي-الاجتماعي السوري، وما يعنيه ذلك من تدخل وتقاسم.

 


ضمن هذا التأطير، يُساعد العنصران الأول والثاني على عدم تحميل السلطة المتشكّلة ما لا يُحتمل، لكن الاكتفاء بهما مدخل للتهاون بما لا يحتمل التهاون، إذ يمكن أن يُستخدما لتبرير أي تجاوز، بدعوى الهويّة والموقع الحالي، ومحدودية القوة؛ وهنا تأتي أهميّة العنصرين الثالث والرابع، أي ترتيب الأولويّات ووضع الخطوط الحُمر. ما هي الأولويات التي يجب أن تُوظّف لأجلها الموارد وتُوجَّه لها القدرة؟ وما هي الخطوط الحمراء التي لا تنازل عنها مهما كان؟ ربّما تعبّد الإجابات على هذين السؤالين الطريق لتحرّي الصواب، لكن غيابهما طريق سالك نحو الهاوية.

 

 

 

استكمال المسار الثوري

 

لا وجود لنقطة فصل “تنتهي” عندها الثورة، مقابل أخرى “تبدأ” بها الدولة؛ فهذا فهم قاصر لماهيّة الثورة، وماهيّة الدولة على حدّ سواء. فلا الدولة تتشكّل الآن من عدم، بل تُبنى على ما سبقها من مسيرة مأسسة ثورية، ولا الثورة حدث ينتهي، بل صيرورة تستمرّ. ضمن هذا التأطير، فإنّه من الأهميّة بمكان العمل على استكمال المسار الثوري على كلّ الصُّعد، من بناء الإنسان المتجذّر في المبادئ، وحتى تشكيل الضمير العام، مروراً بترسيخ المبادئ الثورية في الدولة السورية الوليدة. تُقاد عمليّة كهذه ببوصلة واضحة، ويَلزمها جهد جادّ، وعمل شاقّ، واستراتيجيات متعدّدة المستويات.

 

لربما كان السؤال: كيف تتجذّر الثورة في الإنسان السوري، وبالمحصّلة في دولته؟ ومهما كان الجواب، فتلك مسؤوليّة الكلِّ الثوري.

شارك

مقالات ذات صلة