مقالات سوريا

إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد السوري: كيف تستعيد سوريا استقرارها الاقتصادي؟

أبريل 18, 2025

إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد السوري: كيف تستعيد سوريا استقرارها الاقتصادي؟

تشكل مرحلة التعافي الاقتصادي المبكر بعد النزاعات تحدياً كبيراً لأي بلد يسعى لاستعادة استقراره والنهوض مجدداً. ولا يقتصر هذا التعافي على إعادة بناء ما دمرته الحرب وحسب، بل يشمل أيضاً إعادة هيكلة الاقتصاد وصياغة علاقاته الداخلية والخارجية، إضافة إلى كتابة عقد اجتماعي جديد ينظّم العلاقة بين المواطنين من جهة، وبين الدولة والمواطن من جهة أخرى.

 

 

تعافي الدولة يعني عملياً أن الاقتصاد يبدأ باستعادة قدرته على توفير فرص العمل، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وإعادة إطلاق عجلة الإنتاج بشكل مستدام، مع التأكيد على أن الكتابة عن التعافي ليست قالباً ولا نموذجا جاهزاً، إذ إن لكل دولة ظروفها الخاصة، وتحتاج هذه العملية إلى رؤية واضحة وجهود مشتركة من كافة الأطراف المحلية والدولية لضمان نجاحها، وتجاوز التشوّهات التي تسببت باندلاع النزاع، ومعالجة جذوره الأساسية، لتجنّب العودة إلى العن مجدداً.

 

 

سلفاً، لا نتناول هنا عملية “إعادة الإعمار” التقليدية، بل المرحلة التي تسبقها وتلي مرحلة الإغاثة الإنسانية، إذ إن نجاح تطوير مرحلة مثل إعادة الإعمار يعتمد إلى حدّ كبير على نجاح مرحلة التعافي الاقتصادي.

 

 

في الحالة السورية، تبرز ظاهرتا الفقر والبطالة كتحديين رئيسيين في طريق التعافي، وتحتاجان إلى تحليل عميق ودقيق، ويمثلان تهديداً حقيقياً لأي محاولات للتعافي الاقتصادي والاجتماعي. معدلات الفقر والبطالة ليست مجرد أرقام مجردة نكتبها في المقالات والأبحاث ونذكرها في المقابلات والندوات وحسب، بل هي أزمة اجتماعية واقتصادية متعددة الأبعاد تؤدي لارتفاع مستويات الجريمة والعنف، والهجرة، والتسّرب من المدارس، ما قد يعرقل أي عملية لإعادة البناء والتنمية.

 

 

وكما هو الحال في العديد من البلدان الخارجة من النزاعات، تجد سوريا نفسها أمام واقع مأزوم: مصانع مدمّرة أو متوقفة، بنية تحتية منهارة، الاستثمارات غائبة أو شبه معدومة، ورأس مال بشري معطّل، حيث يجد ملايين الشباب أنفسهم بلا عمل، فيما يقع جزء كبير من السكان تحت خط الفقر.

 

 

لذا فالسؤال المُلّح الآن هو: كيف يمكن تحويل أزمة البطالة إلى فرصة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي في سوريا بعد سقوط النظام؟

 

يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى واجهت ظروفاً مشابهة.


في فيتنام، التي خرجت من حرب مدمرة (1955–1975)، كانت نسبة الفقر والبطالة مرتفعة للغاية. ومع انتهاء الحرب، تبنّت الحكومة خطة اقتصادية تركز على القطاع الصناعي، وتشجّع الاستثمار الأجنبي المباشر، وروّجت لنفسها كمركز صناعي عالمي يستضيف مصانع كبرى مثل “سامسونغ” و”نايكي” و”زارا” وغيرها. ونتيجة لذلك، وفّرت ملايين فرص العمل، وانخفضت معدلات البطالة، وخرج الملايين من دائرة الفقر خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.

 

 

أما رواندا، فقد تجاوزت أزمة بطالة حادّة بعد الإبادة الجماعية عام 1994، إذ تخطت البطالة حينها 60%. لكن الحكومة ركزت على تطوير الزراعة الحديثة، وتشجيع القطاع الخاص، وتمكين النساء، وتأسيس مشاريع صغيرة ومتوسطة. واليوم تُعد رواندا من أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا، مع انخفاض كبير في نسب البطالة إلى ما دون 15%.

 

 

من الضروري الإقرار بأن الحل في سوريا لا يكمن في طلب المساعدات من دول الخليج وأوروبا وأمريكا أو المنظمات الدولية، بل في بناء اقتصاد حقيقي منتِج، قادر على استيعاب أعداد كبيرة من العمالة، وفي أقصر وقت ممكن، إذ لا يمتلك السوريون ترف الوقت. لذا، ينبغي التفكير بآليات سريعة للإنعاش الاقتصادي.

 

 

وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي السوري، يمكن تبني استراتيجية إعادة تشغيل المصانع والمعامل التي توقفت عن العمل بسبب الحرب، بشكل فوري، فبدلاً من إنشاء مصانع جديدة تتطلب أموالاً ضخمة، يمكن بتكاليف أقل بكثير إعادة تأهيل  المصانع المتضررة بسرعة وتشغيلها، ودعمها بالمواد الأولية وكافة المستلزمات الضرورية للعمل ما يؤدي إلى خلق وظائف فورية للشباب، وتنشيط الإنتاج الصناعي المحلي.

 

 

التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية خير دليل على نجاح هذه الاستراتيجية، حيث ساهم إعادة تشغيل المصانع بسرعة في امتصاص البطالة وتحقيق تعافٍ اقتصادي سريع.

 

 

كذلك، يمكن للحكومة الجديدة تصميم برامج تحفيزية لعودة الصناعيين السوريين الذين انتقلوا إلى مصر، وتركيا، والأردن، وأوروبا. من خلال تقديم حوافز ضريبية، وتسهيلات قانونية، والاستماع لمشكلاتهم، يمكن تشجيعهم على إعادة مصانعهم إلى سوريا، والمساهمة في إعادة بناء الاقتصاد الوطني.

 

 

تعد الصناعات كثيفة العمالة – مثل النسيج، وتصنيع الأغذية، ومواد البناء، والزراعة والصناعات المرتبطة بها – من مفاتيح خلق فرص عمل بشكل سريع وفعّال.

 

 

تعرف سوريا قبل النزاع بأنها مجتمع شاب، حيث شكل الشباب نسبة كبيرة من السكان. ووفقاً لبعض التقديرات، كانت الفئة العمرية دون 30 عاماً تشكل حوالي 60-65% من السكان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما يعني طاقة بشرية ضخمة يجب استغلالها بشكل صحيح.

 

 

من أولى الخطوات المطلوبة، التوجّه نحو التعليم المهني والتقني، بدلاً من الاعتماد على التعليم النظري الجامعي، الذي يُنتج آلاف الخريجين سنوياً دون فرص عمل. تأسيس معاهد مهنية لتدريب الشباب على مهارات مثل البرمجة، وصيانة السيارات، والتمديدات الكهربائية، يمكن أن يُحدث فرقاً ملموساً وسريعاً في سوق العمل.

 

 

بالإضافة إلى ذلك، من المهم دعم ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة عبر تقديم قروض ميسّرة وتدريب في مجالات الإدارة والتسويق، إلى جانب تعزيز العمل عن بُعد والاقتصاد الرقمي. فالشباب السوريون قادرون على العمل في البرمجة، والتصميم، والتجارة الإلكترونية من منازلهم، دون الحاجة إلى استثمارات كبيرة. وهنا يمكن للحكومة التنافس لجذب شركات عالمية تبحث عن عمالة عن بعد ضمن بيئة قانونية مرنة وجاذبة.

 

 

هناك تجارب دولية مثل الهند التي ركزت على التكنولوجيا والتعليم المهني، وسنغافورة التي استثمرت في تدريب الشباب على المهارات الحديثة، تؤكد أن الشباب هم الحل وليسوا المشكلة، إذا تم استغلال طاقتهم بشكل صحيح.

 

 

 

ورغم التأثير الكبير للعقوبات الاقتصادية على بيئة الأعمال، إلا أن معظم الخطوات المطروحة يمكن تطبيقها محلياً، دون انتظار رفع العقوبات. يمكن العمل بالتوازي على جميع الملفات، بما فيها الإصلاح المؤسسي، وتحسين البيئة القانونية.

 

 

كل من يزور سوريا اليوم يلمس حجم المعاناة. ولا خيار أمام السوريين وحكومتهم الجديدة سوى تبني برامج اقتصادية مرنة وسريعة، تركز على الصناعة والزراعة وريادة الأعمال، وإعادة تأهيل المصانع، والتعليم المهني.


فذلك هو الطريق الأقصر نحو تعافٍ اقتصادي واجتماعي حقيقي ومستدام.

شارك

مقالات ذات صلة