تأملات

ما رأيتُ إلا جميلاً.. (ما أشبه اليوم بالبارحة)!

أبريل 4, 2025

ما رأيتُ إلا جميلاً.. (ما أشبه اليوم بالبارحة)!

ما أشبهنا اليوم بسيّدنا الحُسين عليه السلام، ونحن نقف وحيدين، غارقين في دمائنا، وسط عالم أعمى وأصمّ. وأتذكر هنا عبارته الشهيرة التي قالها بعد حصاره ومقتل أصحابه: أمَا مِن ناصرٍ ينصرنا؟ أمَا مِن ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله؟.


إنّ صوت أهل غزّة اليوم هو صوت سيّدنا الحسين ذاته قبل أكثر من ألف عام، بمعنى أن الأحداث تتغيّر، لكنّ حامل لواء الظلم واحدٌ في كل زمانٍ ومكان. الظالمُ ظالمٌ بصرف النظر عن دينه وجنسيته وعرقه وطائفته، وكلُّ شخص يسفك الدماء دون وجه حق فهو ظالمٌ قد تبوّأَ أعلى درجاتِ الظلم.

والحقيقة أنّني تساءلت كثيراً: لماذا يُقتل سبط رسول الله ﷺ بهذه الطريقة الوحشية هو وأهل بيت النبوة؟ أما كان الله عز وجل قادراً على أن ينجّيَهم وهم مَنْ هم عنده وعند نبيّه ﷺ؟ بلى، كان قادراً سبحانه وتعالى، ولكن هناك حكمةً لم يدركها البشر.


وفي هذه الجزئية، أستدعي أيضاً نشر جسد سيدنا زكريا عليه السلام بالمنشار إلى نصفين. أما كان يقدر ربنا أن ينجيه من هذا؟ بلى، وكذلك سيدنا يحيى عليه السلام حين ذبحوه؟ أما كان الله قادراً على نجاته؟ بلى، ولكنّ الأمور دائماً لا تُقاس بنظرتنا القاصرة لظواهر الأشياء. وإنّهم في مقاماتهم يعلمون عن أنفسهم أكثر مما نعلم نحن عنهم، لذلك كان سيدنا يعقوب عليه السلام يردد: وأعلمُ مِن الله ما لا تعلمون.


أمّا على صعيد سيّدنا الحسين بالتحديد، فإنّ الرسول ﷺ بَشَّر الحسن والحسين بأنهما “سيّدا شباب أهل الجنّة. وأتأمل هذا المقام العظيم؛ فالأمة الإسلامية عبر أكثر من ألف عام تُقدَّر بالمليارات، ومع ذلك فإنّ هذين الرجلين هما سيّدا شباب أهل الجنة، أي أنّهما يتسيدان مليارات الشباب من أمة سيدنا محمد ﷺ.


لو تخيلنا أنّ شخصًا ما حكم سكان الأرض كلهم، لكان ذلك أمراً عظيماً ومدهشاً، ولكنّ هذا كله لا يُقارن بحكم سيدنا الحسن وسيدنا الحسين في الجنة، التي هي غاية كل مؤمن ومنتهى آماله. هناك، سيدخل الصفوة من عباد الله، الذين رضيَ الله عنهم ورضوا عنه، وكل الذين سيشفع لهم سيدنا محمد ﷺ يوم الشفاعة الكبرى، ثم نجد أنّ الحسن والحسين هما سيّدا شبابها. أليس ذلك مقامًا عظيماً إلى درجة أن عقولنا لا تستطيع استيعاب عظمته؟

إذن، فالأمر كله خير؟ بالتأكيد، بل خيرٌ عظيمٌ جداً. وكما أنَّ كلَّ تلك القصص التي وردت في القرآن الكريم عن ابتلاءات الأنبياء ونصر الله لهم قد ذُكرت لتثبيت قلب النبي ﷺ، كما قال الله تعالى: وكلًّا نَقُصُّ عليكَ مِن أنباءِ الرُّسُلِ ما نُثبّتُ به فؤادَكَ، فإنّ في كل ما حدث مع آل بيت النبي تثبيتٌ لأهل غزّة لو كنّا نعلم. وإنّ أعظم ما ورد في هذه المحنة العظيمة هو قول السيدة زينب رضي الله عنها: ما رأيتُ إلا جميلاً.

وهنا، يتجلّى علينا الخطاب الزينبيّ بأعظم صورة يمكن أن يدركها العارفون بالله. فبالنسبة لي، هذه العبارة التي قالتها السيدة زينب في ذلك الموقف، حيث كانت رأس سيدنا الحسين وأولادها مرفوعةً فوق الرماح، تفوق أعظم كتب التصوف ومعرفة الله عز وجل.

إنّها لم تقل: “ما رأيتُ إلا خيرًا، لأنّ المؤمن يعلم أنّ أمره كله خير، في المنع والعطاء، في الفقد والمحن، في النعم والمِنح، ولكنّها قالت: جميلاً. والجمال حسٌّ مرتبط بإدراكه بصريًا وسمعيًا، في حين أنّ المشهد أمامها كان يفتقر إلى أي صورة من الجمال، بل كان مشهدًا دمويًا مروعًا. لكنها قلبت المعادلة، وقالت لنا:  “رأيتُ صنع الله جميلاً”.

أي أنّها لم تدرك الأمر بأبعاده الدنيوية، بل بمقاماته الأخروية. وإن لم تكن عقيلة بني هاشم، بنت بنت رسول الله ﷺ، تدرك ذلك، فمن سيدركه؟


وبين الخطاب الحسيني: أما من ناصر ينصرنا؟، وخذلان الناصرين له، وبين الخطاب الزينبي بعد ذلك الخذلان الشديد بقولها: ما رأيتُ إلا جميلاً، يدرك المسلم أنّه أمام عترة نبوية طاهرة، أراد الله عز وجل لنور سيدنا محمد ﷺ أن يسري بها، ثم يسري بكل من أحبهم إلى يوم اللقاء المشهود.


وبالعودة إلى غزّة، فإنّنا نعيش هذين الخطابين في آنٍ واحد؛ لا ناصر لنا وسط خذلان شديد، وفي الوقت ذاته لا نرى من الله إلا جميلًا.  لأننا نعلم أن كل ما يحدث، خيره وشره، هو بفعل الله المطلق في كونه.

أسأل الله في ذروة هذه المحن الشديدة، أن يبلغنا مقامات العارفين به، والموصولين والمسبوغين بأنواره. آمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.

شارك

مقالات ذات صلة