تأملات

ينتصرُ الله للأمهات

فبراير 7, 2025

ينتصرُ الله للأمهات

 وجدتُني أهاتف صديقتي فاطمة لترافقني للمشيّ، اعتقدتُ للحظة واحدة أنني أرغب فعلياً في تجربة مشي تأملية بعيداً عن حركة النزوح تحت القصف، والهرولة على الدرج وكيف في كل مرة نقف بها عند باب المنزل لا ندرك إلى أين نحن ذاهبون!

أريد أن أمشي فحسب، ليس مهماً ألّا أعرف وجهتي في المشي، المهم أنني أمشي الآن بعيداً عن صوت الحرب..

مشينا في شوارع مدمرة كثيرة وفوق ركام وبين وجوه متعبة وحائرة، وتذكرنا لحظات كثيرة لم يكن فيها ملجأ إلا الله بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أخبرتني أنها في لحظة اجتياح مفاجئ اضطرت لحمل طفلها (يوسف) والفرار به، وحين أنزلته على الأرض ليمشي اكتشفت أنّه بلا حذاء، وأنّه لن يستطيع المشي حافياً وسط طريق مليء بالركام والحجارة

تقول: ” كانت الأباتشي قد هبطت كثيرا من مستوى الأرض، لا أعرف كيف مشيت والأباتشي تحلق على انخفاضٍ شديد منّي لأجلب حذاء صغيري كي يتمكن من المشي، لا أعرف كيف نجوت في تلك اللحظة؟”

ضحكتُ قليلاً وقلتُ لها: “أرجو أن يتذكر يوسف أن أمّه غامرت بحياتها من أجل ألا يمشي حافياً”

تستطيع الأمُّ أن تفعل الكثير من أجل أبنائها، أقلُ شيءٍ هو ( الموت )، لذلك ينتصر الله عز وجل للأمهات، مذ حملت السيدة مريم العذراء بسيدنا عيسى وحين تعرضت لذلك الظلم الكبير، أجرى الله عز وجل معجزته بإنطاق سيدنا عيسى في المهد منتصراً لأمه، ذلك النطق الذي تحوّل إلى أيقونة الطهر والتبرئة وعظمة الإعجاز والتمكين الإلهي، ذلك الانتصار ذاته الذي منحه لأم  موسى عليه السلام، لتلقيه في اليمّ، ثم يعود إلى حجرها لترضعه في خطة إلهية محكمة ليست سوى انتصار لتلك الأمومة الطافحة، وحتى في تجربة الموت والتثبيت، حينما ألقى فرعون بأطفال ماشطته في الماء المغلي، وعندما جاء دور طفلها الرضيع كادت الأم أن يضعف إيمانها فأنطقه الله ليثبّتها على الحق، لذلك حين استعرض الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة الله قال ( الله أرحم من الأم بولدها )، لأن تلك أعلى مستويات الرحمة الإنسانية رحمة الأم بطفلها، فكان ربنا أشد رحمة بنا منها، فكان مقياس التفاضل لرحمة الله هي ( رحمة الأم )، فما أعظم هذا اختيار النبي عليه الصلاة والسلام في توصيف رحمة الله عز وجلّ.

 

وفي غمرة هذه الاستدعاءات التي راودتني عن الأمّ عاد لي مشهد فاطمة وهي تجلب حذاء طفلها يوسف من تحت الطائرات الحربية، وتذكرت الحذاء الرياضي لطفلي كنان، ذلك الحذاء قاسه مرة واحدة وكان جميلا جدا عليه، وقفز به أكثر من مرة، لقد نجا الحذاء من الحرب، ولكن لم ينج طفلي كنان، حاولتُ أن أنتصرَ لكنان الذي كان يضحك للحياة، فأهديت حذاءه الجديد لصديقه الذي كان يلعب معه ويحبه، تخيلت أن ذلك سيسعده في الجنّة، في محاولةٍ حقيقية لكي أنتصر لروحه المحلقة بعد استشهاده، وأن يغمرني هذا الإحساس شعرت بأنّه انتصار الله لي.

وتذكرت أُمّاً فلسطينية تحتضن حذاء طفلها فوق ركام منزلها المقصوف وهي تتوسل أن يخرجوا ابنها من تحت الركام، تحضنه كطفل رضيع وتبكي فوقه، لم أعد أستطيع رؤية الحذاء أنّه مجرد حذاء، وددت في تلك اللحظة أن أقول لكل الناس اعتنوا بأحذيتكم جيداً امنحوها الحب، لا تعرفون مَنْ سيحضنها يوماً ما لتكون هي ذكراه الأخيرة وحضنه الأدفأ..


نمشي في الطريق الذي تملؤه مياه الصرف الصحي، لقد حاول الاحتلال على مدار أشهر الإبادة أن يُدمّرَ البنية التحتية تماماً، نقفز من هنا وهناك، نحاول ألا نمشي فوقها، كنا نحاول تجنبها بمهارة عالية، يبدو أنّ نزوحنا المتكرر تحت القصف جعلنا ماهرتين في القفز هنا وهناك، قلت لفاطمة، انظري رغم كل هذا الخراب إلا أننا نحاول جاهدتين ألا تلمس أحذيتنا مياه الصرف الصحيّ!


إنّها الفطرة..

والفطرة الإنسانية تميل إلى الجمال والحياة والأمل، رغم 470 يوماً من الموت تنتصر فطرتي النقية للحياة، أبسطها أنني أحاول ألا أؤذي حذائي بالمياه الملوثة، وإذا كان هذا على صعيد الظاهر (المحسوس)، فكيف على صعيد الباطن، كل فكرة سيئة وسلوك لا يرضاه الله يشبه المياه الملوثة، المهم ألّا تجعل قلبك ينغمس فيها، لذلك كان قول الله عز وجل (إلا من أتى الله بقلب سليم) والقلب السليم هو الذي يحاول جاهداً ألا يغمس أقدامه بالسيئات والمعاصي

 

ودعتً فاطمة عند نهاية الطريق، وعُدتُ وحدي، بينما أحاول أن أحافظ على حذائي نظيفاً، رأيت أمامي شاباً جميلاً بُتِرَت قدمه، يقف بلا قدم ولا حذاء، فشعرت بألمٍ شديدٍ في قدمي، وأظنني لم أعد أنتبه إلى مسارات المياه الملوّثة وأنا أمشي وكأنني فقدت ذلك الشغف الذي يدفعني للحفاظ على نظافة حذائي، وأثناء ذلك الشعور القاسي الذي كنتُ أشعرهُ، فجأة أخذ الشارع كله بالتصفير والتصفيق وأخذت الجلبة تتزايد، حتى لاحظت أنَّ ذلك الشاب مبتور القدم يصفق ويغني أيضاً مع الناس، كان الناس كلهم ينظرون للأعلى ، فرفعت عيوني لأعرف ماذا حدث، فرأيتُ عمود الكهرباء وسط الشارع يضيء، لقد عادت الكهرباء لأول مرة منذ 470 يوماً إلى أعمدة الإنارة في الشارع، كل ذلك الفرح لأن مصابيحها اشتعلت، أخرجت هاتفي المحمول والتقطت لها صورة وأنا أبتسم

ليس مشهداً لشارعٍ في باريس، ولا ألعاباً نارية في أستراليا، وليس استعراضاً في ميلانو

إنّه عمود إنارة يضيء في قطاع غزة!

وحين رأيت ذلك الشاب مبتور القدم يضحك أحسستُ أنّ قدمي لم تعد تتألم، وأنني عدت من جديد أراوغ ممرات المياه الملوثة كي لا يتسخ حذائي، وأنا أنظر إلى الضوء في عمود الإنارة كأنّه معجزة صغيرة جميلة تستحقُ الاحتفال وسط عتمتنا الكبيرة.


ضوء صغير جعلنا نحن المتعبين جدا من الحرب نفرح، وتساءلت إذا كان هذا الضوء الذي أصلحه المخلوق ليضيء شارعاً غارقاً بالعتمة منذ أكثر من عام، كيف بمَنْ بالله عز وجل وقد سمّى نفسه (النور)، وكيف إذا سكب نوره السرمديّ على باطن وظاهر عبده، فما أعظم الخالق وما أصغر المخلوق، وما أشدّ النور الإلهي، وما أخفت النور البشري، يظل العالم معتماً حتى يضيء الله قلبك فيستضيء العالم به

 

3 فبراير 2025

شارك

مقالات ذات صلة