مدونات

التعب النفسي المُستتر: كيف نخفي معاناتنا تحت وطأة الحروب؟

يناير 3, 2025

التعب النفسي المُستتر: كيف نخفي معاناتنا تحت وطأة الحروب؟

الكاتبة: هنادي الدنف

 

الحروب والصراعات تُثقل كاهل النفس البشرية، حيث تُلقي بظلالها على كل جانب من جوانب الحياة، لتصبح المعاناة النفسية أمرًا شائعًا لكن مخفيًا في أغلب الأحيان. في المناطق التي تعاني من النزاعات، مثل غزة، قد يبدو الناس أقوياء من الخارج، لكن في الداخل يعانون من تعب نفسي مستتر لا يظهر بسهولة.

هذه الظاهرة تُعرف بأنها نوع من الإنكار أو كتمان المشاعر، وهو ما يجعل الحديث عن الصحة النفسية تحديًا إضافيًا في هذه البيئات.

“أنا بخير”… كلمة تُخفي الكثير تحت وطأة الحروب، يصبح التعبير عن المشاعر أمرًا صعبًا. كثيرًا ما نسمع عبارات مثل “أنا بخير” أو “كل شيء على ما يرام”، لكنها لا تعكس الحقيقة. هذا الإنكار قد يكون وسيلة للتأقلم مع الواقع المؤلم أو للحفاظ على صورة القوة أمام الآخرين. هذا النوع من التعب النفسي الذي يبدو مخفيًا يظهر في شكل علامات غير مباشرة مثل الإرهاق المزمن، الحزن العميق غير المُعبر عنه، أو حتى الحساسية الزائدة تجاه مواقف يومية بسيطة.

مع الوقت، يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل صحية ونفسية طويلة الأمد.

قصص من الواقع تُظهر قصص حقيقية من غزة مدى تأثير الحروب على النفس البشرية:

أم أحمد، التي فقدت منزلها خلال القصف الأخير، تعيش حالة من الأرق والقلق الدائم. ورغم ذلك، تُصرّ على إظهار القوة أمام أطفالها كي يشعروا بالأمان. لكنها تقول في لحظات صراحة نادرة: “لا أستطيع النوم. كل ليلة أسمع أصوات القصف في رأسي”.

يوسف، شاب في العشرينيات، فقد والده في الحرب. يحاول أن يبدو صلبًا أمام أصدقائه، لكنه يعزل نفسه ليلاً ليعيش في دوامة من الحزن والندم.

رهف، عاملة في مؤسسة إغاثة إنسانية، تقدم الدعم للمتضررين لكنها نفسها تعاني من الإنهاك النفسي بسبب ما تراه يوميًا من مآسٍ. تقول: “أحيانًا أشعر أنني بحاجة لمن يُنصت لي، لكنني أستمر في العمل لأن الآخرين يحتاجونني”.

كيف تؤثر الحروب على الصحة النفسية؟ الحروب تُخلف جروحًا نفسية عميقة تستمر لفترة طويلة حتى بعد انتهاء الصراعات. الذكريات المؤلمة مثل فقدان أحد الأحبة أو مشاهدة الدمار تصبح محفورة في العقل، مما يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية متعددة، مثل:

1. اضطراب ما بعد الصدمة(PTSD): الأشخاص الذين عاشوا تجارب قاسية يجدون أنفسهم عالقين في ذكريات الماضي، ما يؤدي إلى كوابيس، قلق مستمر، وتجنب أي شيء يُذكّرهم بما حدث.

2. الاكتئاب المزمن: فقدان الأمل في المستقبل وتراكم الخسائر الشخصية يجعل الأشخاص يشعرون باليأس.

3. القلق الاجتماعي: الخوف من التجمعات أو المواقف التي قد تتسبب في صدمة جديدة. ذاكرة جماعية مليئة بالألم الحروب لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تُكوّن ذاكرة جماعية مليئة بالمآسي.

الأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاع يكبرون حاملين ذكريات مليئة بالخوف، مما يؤثر على تكوين شخصياتهم وقدرتهم على التفاعل مع العالم.

النساء أيضًا يتحملن عبئًا نفسيًا إضافيًا، حيث يتعين عليهن أن يكنّ عمود الأسرة في ظل غياب الأزواج بسبب الحرب.

خطوات للتعامل مع التعب النفسي الناجم عن الحروب رغم كل هذه التحديات، هناك طرق يمكن من خلالها التعامل مع هذا النوع من التعب النفسي: 1. التعبير عن المشاعر: توفير مساحة آمنة للتحدث عن المشاعر يمكن أن يكون بداية للشفاء. سواء كان ذلك مع مختص نفسي، صديق مقرب، أو حتى من خلال الكتابة. 2. تعزيز المرونة النفسية: من خلال التركيز على الجوانب الإيجابية الصغيرة في الحياة، مثل لحظات الأمان أو الدعم الأسري. 3. طلب المساعدة المهنية: العلاج النفسي، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، يساعد على إعادة بناء الأفكار السلبية المرتبطة بالذكريات المؤلمة. 4. اليقظة الذهنية(Mindfulness): تقنيات التأمل والتركيز على الحاضر تُساعد على تخفيف تأثير الذكريات السلبية. 5. الفنون والأنشطة التعبيرية: الرسم، الموسيقى، أو حتى البستنة يمكن أن تكون أدوات فعالة للتخفيف من التوتر والقلق.

نحو مستقبل أكثر صحة نفسية التعب النفسي المستتر ليس مجرد حالة مؤقتة بل ظاهرة تتطلب اهتمامًا جادًا من الأفراد والمجتمع. في ظل استمرار الحروب والصراعات، يصبح الحديث عن الصحة النفسية أمرًا ضروريًا وليس ثانويًا.

يجب أن نتعلم أن نقول: “أنا لست بخير”، وأن نطلب المساعدة دون خجل. في النهاية، الحروب ليست مجرد أحداث تنتهي بتوقف القصف، بل هي جروح نفسية عميقة تستمر لسنوات طويلة. الاعتراف بالتعب النفسي ومعالجته خطوة أساسية لبناء مجتمعات قادرة على تجاوز آلام الماضي وبناء مستقبل أفضل.


شارك

مقالات ذات صلة