آراء

شبر وقبضة: ماذا، ولماذا؟

ديسمبر 31, 2024

شبر وقبضة: ماذا، ولماذا؟

                                                                ( 1 )


فقدتُ اتّزاني وشيئًا من حواسي (السمع والبصر) لبضع ساعات في يومين متتاليين، وأكتب الآن وفي ذهني هاجسٌ يتساءل: هل سيتكرّر هذا الليلة؟ وماذا لو استمرّ لما لانهاية؟ لم يكن عمىً ولا صممًا تامًا، لكن يشبهه، كأن حجابًا وضعَ قسرًا بيني وبين القدرة على الإدراك أو الفعل لجأ الأصدقاء لتفسيرات متعجّلة بشأن النوم والطعام والأدوية، وكلّها إشكالات قائمة، لكنّ مبرّرًا آخر كان يكمن في ركنٍ ما في النفس (ذهنًا وروحًا وجسدًا) تفجّر فيه ما هو أثقل، وكان كامنًا لسنين ربّما، بعد أن فجّرته مشاهد نُقلت مباشرةً من سوريا.


هربًا من المواجهة ربّما، أو عدم استطاعة، يخزّن الذهن تجربتك القاسية بما صاحبها من مشاعر، حتى لحظةٍ يقدر على التعاطي معها دونَ أن يسقط متفتتًا، يُخبّئها في بئرٍ غويط، ويحكم الإغلاق عليها، حتى كأنها لم تكنً، لكنّ مشهدًا أي حدثًا أو صورة أو حتى صوتًا، يمكن أن يفسد الخطّة الذهنيّة تمامًا، وينسف الباب ليترككَ في مواجهة الطوفان المكبوت وحيدًا ودون أيّ أداة للمقاومة.


عشر سنين في المعتقل، بينهم سبع ونصف في زنزانة انفراديّة، حدث فيهم ما لا يمكن أن يسعه حكيٌ ولا كتابة، ورغم ما يؤذي قارئيه على اعتباره التفجّر الأخير، ليس شيئًا فيما جرى للرفاق والجيران (سياسيين وجنائيين وعساكر) أو لي، ورغم ذلك لا يحتمله أحد ونسعى (كاتبه وقرّاؤه) لإنهاء استدعاءاته فورًا وإعادة بناء الباب لقمعه مجدّدًا، سواء خوفًا من أذىً أمنيٍّ يعيد الكاتب لذات التجربة أو أقسى، أو خشية الانهيار التام في مواجهة الاستدعاء القسريّ غير المستعدّ له.


ولا أخفيكم؛ حاولتُ باجتهادٍ ذاتيٍّ ومساعدات حولي أن أتحايل على هذا التفجُّر، إذ لا أقدر عليه، ولم أتعافَ منه بعد حتى أتعاطى معه على هذه الصورة التي تُكرر استعادة التجربة ذاتها بما صاحبها من مشاعر وأعراض وربّما أصوات ومشاعر، فأجدُ نفسي محشورًا في ذات التجربة بكلّ ما كان بها من ضرر، دون أن أبرح سريري أو حتى وأنا وسط صحبةٍ أو على شاطئ.


وبعيدًا عن الصراعات الدائرة بين اللوزة الدماغيّة والقشرة الأماميّة ومأساة الحصين بينهما، أو مأساتي أنا بينهما للدقّة، إلا أنّ إلحاحًا لا واعيًا أدار الحكاية كلّها في اللحظات الأولى، وما زال مسيطرًا عليها، لم أقدر عليه، لكني أعدتّ استخدام ذات أدوات التحايل القديمة التي كنت ألجأ لها في الانفراد أو التأديب أو تحت التعذيب لأنجو (هل ثمّة نجاة؟) ونقلتُ البئر وما فيه لنطاق الوعي، ومن ثمّ الدور والمسؤوليّة تجاه تلك الوقائع وأصحابها، كشهادات ملعونٌ كاتمها، وإشارات على الحاصل في الداخل للكلّ دون استثناء، سياسيّيهم وجنائيّيهم، مشاهيرهم وعوامهم، أبناء هذا التيّار أو ذاك، أو أبناء الإنسان مجرّدًا دون معرفة ما الذي يعنيه “تيّار” أصلاً.


أحاول تجنّب الأثر والصدى وما يدور حول الشهادات من دوائر، ردودًا وتشكيكًا وهجومًا وتضخيمًا وتحريفًا، وتأثّرًا صادقًا بالطبع، كي لا أسقط أسرع، كي لا تسقط الحكايات أبكر، وكي أتجرّد من مزاج الجمهور في المعسكرات المختلفة والذي لن يرضيهم إلا كاتب سيناريو ابن قاموسهم ومنطلقهم، بعيدًا عن حقيقة ما جرى وما يعنيه وما يهدده استمراره ونكرانه في حياتنا كبشر ووطن، وحياة هذا الكوكب المجنون كلّه.


                                                                    ( 2 )


عندما تنشر شهادة عن انتهاك أو جريمة، لا تكونُ بطلاً ولا مغامرًا ولا متهوّرًا

أنت فقط تحاول أن تكون إنسانًا..

تضخيم السلوك “الطبيعي” مخيف، لا يخلو من تطبيع مع القبح والرعب، وربّما يتسبب في ترسيخها وزيادتها..

أتفهّم المشاعر والتعبير عنها-وأقدّرها-لكني أعرف على الجانب الآخر أن غالبها سيشيطنني عندما أقول رأيًا يناقض اعتقاده أو حتى شهادةً أخرى تصطدم بالراسخ في ذهنه..


لذا؛ لا أعوّلُ عليها إيجابًا ولا سلبًا..

أما التشكيك في الوقائع فهو إغراض قد يرقى للشراكة فيها، لن ألتفت له ولن أجاريه..

فقط سأحكي تلك الوقائع، تخفّفًا منها قبل أن أنفجر من تداعيها الملحّ منذ انفتح الباب قسرًا مع المشاهد من معتقلات سوريا، ومحاولةً لوضعها في سياق “الشهادة” مجرّدة حتى عن الرأي، والتذكير، دون تحويل تلك الشهادات لحلقة في هذا الصراع لا مع مؤسسات ولا مع جماعات ولا غيرهم..


قد أحتفظ بالكثير جدًا من التفاصيل تقديرًا لأثرها على أسر المعتقلين، قد أجرّد الصياغة من كلّ موقف أو رأي، قد لا أردّ على التعليقات والأسئلة وكلّ أشكال الصدى، وقد أفرّ لتحويل الحكايات لمشروعٍ أكثر منهجيّةً وبقاءً بعيدًا عن عَرضيّة وسائل التواصل الاجتماعي والتعاطي الانفعالي والعاطفي معها..


لكن على كلّ حال؛ سأستمرُّ في الحكي، حتى أنتهي أو ينغلق الباب الذي كانت تختبئ وراءه كلّ هذه الوقائع قسرًا كما انفتح..



شارك

مقالات ذات صلة