آراء
قد نقول إن الحرب تمهّلت قليلا، أو إن شكلًا من أشكالها توقف، بينما تبقّت لها وجوه كثيرة، أردت أن أقول “انقشع غبارها”، لكني ما زلت أرى غبارها هائلا يتصاعد ويشكّل سحابةً رمادية كبرى فوق غزة، من كارثة القصف والدمار والركام والأنقاض، وكدت أقول “هدأت طبولها”، لكني ما زلت أسمع قرعها في كل تصريح ونيةٍ وسلوك من العدو، فإنما تبدّلت أدوارها، وتجددت رحاها، وإن كانت بالأمس حرب القتل بالرصاص والصواريخ والغارات، ولا مكان ليتفقد أحد خسائره ولا أحزانه ولا جراحه، فإن حرب الصواريخ أقلعت، وحلت حرب تفقد الخسارة والحزن والوجع.. ولا أحد بين كل تلك الحروب كلها سوى غزة وأهلها، وحدهم، وحدهم.
وليس يعني ذلك نفي الانتصار بكسر أنف العدو لا برغمها وحسب، وبتمريغ وجهه تحت أقدام غزة لا بإذلال كرامته فقط، وبقهر إرادته لا بمنعه تحقيق أهدافه فقط، ولا يتعارض ذلك مع الكثير الكثير الذي دفعته غزة طيلة أيامها الخمسمئة، وما تشعر به من مشاعر متناقضة، من المآتم والمواكب، من الشجون والمحافل، من الأتراح والأفراح، وعليهِ فلا ينبغي علينا تعظيم شعور دون الآخر، لا تعني الكارثة أن غزة لم تنتصر، فلا تحسَب الانتصارات بمقدار الدماء -الزكية الطاهرة في غزة تحديدا- ولا حجم الدمار، وكذلك لا يعني الانتصار، نفي أن هناك إبادةً جماعية شنيعة جرت، وهي ضمن الأقذر في التاريخ، بل أفظعها على الإطلاق إذا ما قسناها على الظروف الإقليمية والخذلان من الجوار واجتماع قوى العالم الغربي عليها وتواطؤ قوى الشرق مع العدوّ، فقطعًا ستكون تلك أبشع “حرب إبادة جماعية” في التاريخ، وسيكون ذلك أعظم انتصار للضحية في التاريخ والجغرافيا.
إذًا، وقد انقضت تلك الأيام جزئيا، ويُفتح المعبر جزئيا، وتدخل الحاجيات جزئيا، ما الذي على كل منا فعله؟ كنا نقول إن الظلمة يمنعوننا من كل فعل كريم نبيل شريف تجاه غزة في أيام استغاثتها، وعلينا ما علينا من خطايا وآثام في ذلك يعلمها الله ويعذر الله ما شاء منها، أسأله وحده أن ينجينا يوم العرض عليه، وأعوذ به أن نقف على الصراط فسطاطين، جميعنا في جانب، وعلى الجانب الآخر تكون خصيمتنا غزة، معاذ الله، وقد انقضت الحجج ونفدت، حيث أصبح التواصل متاحا وتحويل الأموال أيسر إلى الجمعيات الموثوقة في غزة وخارجها، وكذلك يمكن التحايل على كثير من الظروف للتطوع بالذهاب إلى أهل غزة مع قوافل مهنية، كالأطباء والمهندسين وغيرهم.
وهممت أن أتحدث على واجبنا تجاه غزة، لكن عدلتها في عنوان مقالي إلى “الفريضة”، فما يجب تقديمه ليس واجب أخوة مثلًا يقدّره الأخ نفسه، ولا “البقاء لله” نقول في عزائنا لصديق توفي جده بعد مئة سنة، وإنما هنا يكون الواجب “فرضا” يحاسبنا الله حسابا دقيقا عسيرا عليه، فرض عين لا يسقط عن البعض بأداء الآخرين له، وإنما هو كالصلاة والصوم، وإلا فتولٍّ يوم الزحف، وإلا فكبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات الكبرى، والله أعلم، وهذا حتى ليس من باب تجهيز غازٍ، وإنما إعانة أهل الثغور بما يتقوون عليه، حتى لا يفتنوا في دينهم وتخور قواهم، وحتى نؤدي إليهم أبسط ديونهم علينا، وهو دين عظيم واسع مستحق، أقرضوه إلينا برجولتهم ومروءتهم ودينهم وكرامتهم، وليس على أحدٍ منا من سدادٍ أثقل منه، فلا تستشعروا في صدقاتكم أنها إنفاق لله وحسب، وإنما أداء لحقوق، قد تحول بيننا وبين الحساب يوم نوارى الثرى، حتى تُدفع.
فالفريضة اليوم هي أن ندفع بكل جهدنا في غزة، وعلى رأسه المال، ولعل من أجمل المعاني التي قرأتها في الجهاد هو إحالته إلى أصله اللغوي من “جهد”، والمقصود هو الشيء الذي يشعرك بالجهد والعناء والمشقة، لا “فضلة خيرك”، ولا بقايا مالك، ولا ما تيسر من نفقاتك، كأنما ترمي إليها فتاتا، غزة ليست بائعة ورد أو مناديل ورقية على قارعة الطريق تزيد لها على الجنيه جنيهين، وإنما هي أعز بقاع الجهاد في الأمة، وأشرف جبهاتها، وأكرم خلقها، وأصدق مرابطيها، فهي تستحق “استحقاقًا” أعظم مالك وأكثر جهدك، أي أن تشعر بالعناء جراء ما تقدم، ولو لمدة وجيزة، أن تضيّق عيشك شهرًا وشهرين، أن تؤجل رفاهياتك وبعض ضروراتك لفترة، أن تلغي بعض خططك لعام، في سبيل أن تقدّم إليها ما تحتاج، وهي تحتاج الكثير، أن تشطب بند الادخار وتسميه غزة، فتدخر كرامتك وكرمك مع الله.
وبينما ترسل أموالك، استحضر نية تجهيز الغازي، وإعانة المرابط، وإعالة أهله، وانظر في أي يدٍ تضع عطاءك، فهي أولا يد الله، وثانيا يد مقاوم يقبض باليد الأخرى على الزناد، وهي يد زوجة الشهيد تقبض بيدها الأخرى على الجمر، وهي يد أطفال الشهيد يقبضون بيدهم الأخرى على الهواء، وهي يد الأسير يقبض بيده الأخرى على القضبان، وهي يد الشعب المرابط يقبض بيده الأخرى على طين البلاد، وهي يد غزة تقبض بيدها الأخرى على فلسطين والأمة والتاريخ والجغرافيا والشرف والكرامة والصمود، هي كل يد أعلى من يدك، ولا يرفعك إليها ولا يدنيك منها قليلا، سوى صدقة صادقة، ولا يرفعك عنها شيء أبدا، إلا أن تعيد الزمان فتعيش ما عاشوه، إلا أن تجود بدمك كله لهم فلا يتبقى لك منك شيء، والله أعلى وأعلم.
والتمس في ذلك الجهات الموثوقة، والأشخاص الذين تعرفهم، ولا تجعل للشيطان سبيلا عليك بأن يعجزك فتقول إن الأموال تهدر والقوافل تعطل والبعض ينهبون، من صدق العزم وجد السبيل، فاصدق البحث وتحرَّ الصدق وستجد ضالتك بعون الله، ولا تمنن تستكثر، ولا تقتر تستخسر، ولا تعطِ إلا جميلا عظيما، واعلم أنهم قوم لم يدخروا على الله نفوسهم يوم طلبها، فبذلوها رخيصةً هينةً سهلةً، وفوقها أرواحهم وأشلاؤهم وأحبابهم وديارهم وأموالهم وأعمالهم ودنياهم، فهل نبخل على الله بنذرً يسير حقير مهينٍ من رزق عظيم وفير أعطانا؟ “هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم”. صدق الله العظيم.