آراء

في زمن التيه.. الذاكرة العربية مثقوبة!

ديسمبر 31, 2024

في زمن التيه.. الذاكرة العربية مثقوبة!

 

مُفجعٌ حقا أن تصير إسرائيل عصا الحقبة الجديدة، أن تنتزع الماضي وتخطف الحاضر، أن تصبح السيد الذي يلوح لمحيطه آمرا وناهيا بوضع الأمور في نصاب أولوياته وأطماعه واهتماماته، وأن يصيغ حروبه الدموية المدعومة من الشرق والغرب وفق خارطة توسعية لا يستحي بها وإذا ما أراد المواربة تخفى بشعارات الراعي الأمريكي القائمة على نشر دروس الحرية وتعاليم الديمقراطية تلك الاستحقاقات الوردية التي لم تزهر في حقولنا يوما.


دخلنا الآن عصرا جديدا، وها هم يعرضون أوطانا للبيع في مناقصة عالمية، من يريد احتلال دولة عربية بنفطها فليقتحم أجواءها وليضرب حيث ما شاء، وليسطو على الثروة والسيادة قدر ما يطمح فالدنيا مشاع للأقوى، ويمكن اقتسامها مع الأصدقاء والحلفاء ممن وفروا المبررات بأشكالها المختلفة وفضحوا بقصد أو غير قصد العجز وانتفاء الوطنية وهجرة القومية وسيادة مفاهيم الجاهلية في أماكن كثيرة.


يشكك الجيل الجديد بقيم وثوابت ومعادلات تصدعت أمامه وتهشمت في مشهد سوريالي مخيف، فالعرب الذين طالما صوروا أنفسهم كقومية تتقاطع مبادئها وتتوحد عند مركزية القضية الكبرى على خارطة أوطان كانت حتى زمن ليس ببعيد أكبر من قارة، غدت اليوم أرخبيلاً من الجزر المتناثرة في بحر الظلمات، تتصارع وتتقاتل، كما لو أنه لم يجمعها شيء من حقائق التاريخ والجغرافيا وأصبح الارتماء في أحضان العدو ولبس ثوب ما يسمى السلام مواكبة لموضة سياسية رائجة يجب ادراكها واللحاق بها وإلا فإن من تخلف عن الركب لن يبلغ الأمان.


وإذا ما هبت فئة صادقة مؤمنة للدفاع عن قداسة الأرض والعرض، اعْتُبِر هذا العمل المقاوم والبديهي نوعا من الوهم  وحالة من الغرق وتوريط البلاد والعباد في ما لا علاقة لها به وفي مغامرات لا تسر خاطر السلاطين وجوقة المطبلين لهم إعلاما وجماهير.


أسقطت من الذاكرة كل الأدبيات التي ترى في إسرائيل كيانا مزعوما، وسلك الجميع سكة التعجل والهرولة لأداء فروض الطاعة ومناسك الولاء الجديد، ونشأت أجيال تتغنى بعناوين الواقعية والازدهار الاقتصادي  والحداثة والتطور وأن كل ذلك أطاح حسب مقاربتهم بأوهام بائدة وشعارات زائفة لم تعد تسمن ولا تغني، فمن قال إن خيار المواجهة هو عين الصواب؟ يسأل من يتسمرون حول الشاشات وعلى المنصات، ومن قال إن علينا حمل السلم بالعرض والتخبط في صراع هزيمتنا فيه حتمية؟


بل أكثر من ذلك، من قال إن الصلاة في القدس فعل يستحق كل هذا العناء؟ ومن قال إن الاحتلال عار ولا سبيل لمصافحته؟ وأن الغاية لا تبرر الوسيلة؟


 نعم في زمن المادة المتوحشة، والإعلام المتخم بأموال التحريض والتضليل، انحرف المزاج العربي العام إلى مكان آخر يخالف جوهر اعتقاده ومعتقداته، ونجح أصحاب الثروات في ثقب الذاكرة العربية  بل في تمزيقها وتفتيتها حد الدخول في عصر التيه والنسيان والتشتت.


ثمة من يطوي الماضي ويحرف الحاضر ويغتال المستقبل بضربة استسلام ظنا منه أن في ذلك مبلغ السلام والأمان، ماذا عسانا نفعل؟ وأين تكمن الحلول؟ لا تفاؤل في الأفق، ولا تحولات قريبة، الأمر يحتاج بداية إلى الجلوس على كرسي الاعتراف والإقرار بمشكلات واقعنا المتخلف، وأن نبحث بجهد عن أسبابه وتراكماته وترسباته كي نستطيع تحديد العلاج، وأن ننخرط في ورشة بحث ومراجعة شاملة وتجارب واختبارات على مسرح الأمة لنسدل الستار على دواء يطبب جروحها، ويرمم ثقوب ذاكرتها، عن سبيل يداوي الألم لا يسكنه، عن جرعة شافية لا مخدرة، ونبدأ من أنفسنا، فلا نسمح بإنكار هويتنا، ولا بتزوير أسمائنا وتاريخنا، ولا بتقطيع أوصال وحدتنا وعمقنا التاريخي والثقافي، أن نقاوم، أن نتلقى سهام الاتهامات لنا بالضعف والعجز، أن نقاوم الانزلاق الذي يهوي إليه حكامنا ومحاولات الاقتلاع التي يمارسها العدو ضدنا على مدار الساعة، في الأرض كما في الثقافة، في القيم كما في التاريخ، فلسنا لقطاء مرميين خارج الزمان، أو قطعانا من العجزة والمغفلين يسوقنا البعض من أصحاب السلطة والنفوذ إلى حيث تشاء مصالح عروشهم وثرواتهم.


ليس في الأمر مكابرة أو معاندة، بل هو أسهل من ذلك بكثير، ببساطة أعطني الإنسانية وخذ كل شيء، أعطني الإنسانية وسأصافحك وأسامحك وأقبل جبينك، لكن ذلك مازال  قيد الحلم، ولا سبيل إليه في واقع متردي يريد أن يسحب الأمة إلى ما لا تحمد عقباه، فحتى الآن الإنسانية مسحوقة، تدوسها جحافل الدبابات في غزة، وتنفر دماؤها من وجه طفل في خان يونس وجباليا، متهشمة هي على أبواب المصلين في القدس والأقصى، مترنحة في دروب كنيسة المهد، مشتعلة في ربوع الضفة، متراجعة أمام أحقاد الطائفيين والمذهبيين في أمكنة عربية كثيرة، باكية هي تستصرخ وحوش العصر تقاتل قمعا واستبدادا ولا حياة لمن تنادي، عن أي أمن وأمان تحدثنا وأنت تسرق وتنهب الخيرات،  وعن أي سلام يغري السذج وهو يفرض بقوة السلاح وممارسات الإجرام والإرهاب، لا سبيل على الإطلاق لمد جسور الثقة على أنقاض الدموع والدماء، ولا مكان للزمن الإسرائيلي، لا مكان للنازيين الجدد ولا للمتناحرين على سموم التاريخ.


لا مجال لك أيها العربي إلا أن تصون زمانك بيدك لا أن تتوه في زمان عدوك، ولا حل وسطي بين الأمرين، فاصنع زمانك بيمينك ويبقينك، كائنا ما كان هذا اليقين، ولا تسمح لذاكرة مثقوبة أن ينفذ منها ما نمتلك من روابط وعناصر قوتنا حتى لا نخسر تاريخا سيلعننا ومستقبل أجيال مجهول النسب والهوية يبحث عن أصله وفصله وما من مجيب.

 

شارك

مقالات ذات صلة