آراء
إرث خمسين عاما من الخيانة، خمسة عقود من العمالة، نصف قرن من تضييع الأراضي وضمها إلى “إسرائيل”، عشرات السنين من الطلقات الموجهة إلى الشعب وحده، والمدافع المسخرة لفض المظاهرات، والدبابات التي تهرس الجثامين، والآليات التي يكون صدرها في صدور الناس، ومؤخرتها للاحتلال وحده، إرث خمسين عاما من الطائرات التي صدئت في المطارات حتى استعملها الفتى المدلل للمحور المقاوم، في قصف شعبه وحرق أرضه وتسوية المدن فوق رؤوس سكانها، ترِكة مئات الشهور والأيام، الذاخرة بالأحداث والسانحة بالفرص لاسترداد الكرامة ولو مرةً واحدة ولم يفعل، ولو ليقولوا عليه لم يمت قبل أن يطلق النار على “إسرائيل”، ولم يرحل قبل أن يحاول تحرير شبر من الجولان، لكنه لم يرضَ ذلك، فآثر السلامةَ الخؤونة حتى خانته، فهلك.
خمسون عاما من المذلة وبيع الشرف والكرامة، وامتهان الإنسان، واستيطان الأوطان، وقطع الألسنة، وتدمير الحقوق، واغتصاب الأعراض، وانتهاك الحرمات، وتجويع الخلق، وتكفير الشعب، وترويع الآمنين ولو من ظلالهم، فلا يجرؤون على مجابهة عدو الداخل حتى يجابهوا عدو الخارج، فكانوا في منأى عن معركة ودوا لو خضبوا بها دماءهم بدلا من إنفاقها سدى في معركة تحرير الوطن من ذلك اللص السادي المريض، وأتباعه من المجرمين الملاعين، لكنه أبعدهم عن الميدان الحقيقي، ليجدوا أنه لا بد من تجاوز أسوار البلاد في القلب، قبل تخطي حدودها نحو الجنوب الغربي، لكنه أصاب تلك القلوب قبل أن تصيب هي قلب المسألة ولب القضية، فأمّن العدوَّ من عزائمهم، وضمن له الأمن من حميّتهم، وقد صهر تلك العزائم في أفرانه، وأعدمها في مكابسه!
عقد ونصف من استنزاف “المقاومينَ” للسوريين المقاومين بالفطرة أصلا، وطاقاتهم وأعمارهم وحيواتهم وإراداتهم في سجون صيدنايا، وكل سوريا صيدنايا، أربعة عشر عاما، والمحور المقاوم يرى الصورة بالمقلوب، ويمسك الخريطة بالعكس، فيقصف القصير ويرتكب المجازر بحمص ويحرق الأخضر واليابس بحماة ويحتل قلاع دمشق، ويهجّر ملايين السكان الأصليين، بدلا من أن يوجه تلك الجحافل والميليشيات والوحدات والجيوش الجرارة إلى الحدود مع الاحتلال فيغزوهم ولا يغزوننا، ولكنه كان يتمحور حول الإله المهزأ، الرب الذي خلقوه من عجوة ليأكلوه وقتما جاعوا، لكن جوعه كان منهم أقرب، فأكلهم في معركته التافهة الساذجة، التي أزهق فيها أرواح مليون سوري، وهجّر نصف الشعب، حرفيا، حتى تآكلت قواه وقواهم، وخارت أصنام الجميع في آن واحد، كان يعبد أحدهم الآخر، حتى اكتشفوا فجأةً أن لا إله إلا الله وحده، لكنه كان اكتشاف فرعون في اليم، يوم قال آمنت برب موسى وهارون، فأدركه الطوفان، وكان من المغرقين.
بلدٌ منعه شبيحُه الأكبر، ومعه شبيحته الصغار، من الخير كله، فأزم اقتصاده، وهدم بنيانه، وشل مؤسساته، وقطع خدماته، وتوقف به عند مئة عاما للوراء، كأن العالم كله يتحرك في اتجاه بينما يعود هو بسرعة مضاعفة إلى الاتجاه المعاكس، داهسا بعجلات إجرامه على أجسام شعبه، وبرفقته محركوه، المسنِدون القتلة، الشادّون على يديه فوق السوط، المؤازرون بالفعل وبالصوت، آملين أن يمر من عبره الهلال الذي يريدون اكتماله، دمويا، من أحشاء الشوام وآلامهم.
كل ذلك كان مما كسبت أيديهم، ثم يالبجاحتهم وجرأتهم على التزييف والتسحيج والتشبيح معًا، فيقولون للسوريين الذين حرروا أرضهم للتو، ورفعوا أعلامهم خفاقةً في ساعاتهم الأولى، وقد كانت بلادا بلا أعلام ولا زلام، تعج بالأصنام والأزلام، وأضاؤوا الأقمار، وأشعلوا الشموس، وفتحوا شراعات الديار على الهواء، وفكوا قيود الجسد العاني الأسير، وسقوا الحلوق الظمآنة من عطش، ويعدّون الأواني والدلاء ليطعموا الأمعاء الخاوية من جوع، ويحاولون أن يستنشقوا عبير الشام الذي يقرؤون عنه ولا يشمونه، لأول مرة منذ ميلادهم، ويحاولون أن يروا شيئا لامعا في الأفق كانوا ظنوه مات منذ زمن طويل، فيباغتهم العدوّ ببعض ما خلّفه الجرذ الهارب، وحلفاؤه السفاحون، فيقصف الاحتلال دمشق وهي في مشارف عزها ومجدها، وباكورة صبحها النَّدِيِّ، فيسأل الدخلاءُ المقتَلَعون الأهالي العائدين: لماذا لم تردوا على قصف دمشق واحتلال قرى القنيطرة؟
يا عالم، أنتم للتو رحلتم من أرض حكمتموها طيلة خمسين سنة، واحتللتموها من زواياها وأطرافها بمحاوركم طيلة خمس عشرة سنة، فلم تحرروا منها شبرا، ولم تردوا عنها عدوا، ثم هاأنتم تتذكرون اليوم فجأة، بعدما تسلم القوم الأحرار تَرِكَتكم العفنة العطنة، أن ثمة من يحاول استغلال الساعة الحرجة والفرصة المؤقتة والفترة العابرة ليستعرض قواه، فتسألونهم لماذا لا تواجهون، وتلك إشكالية كبرى، فالسؤال المنتظر هو لكم، لماذا لم تواجهوا في الأرض ذاتها هنا طوال تلك السنوات؟
بل وزيادةً على ذلك، قطعتم السوريين من خلاف، وصلبتموهم في جذوع النخل، وسلبتموهم أسلحتهم، وقصقصتهم أجنحتهم، وانتزعتم مخالبهم، وهشّمتم أنيابهم، ثم عدتم تسألونهم لماذا لا تتشرسون في وجه من يعاديكم؟ كأننا في انتخابات من رفاهيات العالم الأول، والقوم يحكمون في عز أمجاد دمشق وغلبتها وانتصاراتها واستقرارها وأمنها وأمانها وقوتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعسكريا، ومع ذلك يتعرضون لاعتداء وحشي من العدو الإسرائيلي، ثم هم يحجمون عن القتال! الواقع غير ذلك تماما، أنتم من مهدتم الأرض لذلك الاحتلال، ووحدهم، من سيدفعونه، حين تأتي الساعة، حين تقوى السواعد، ويشتد الأزر، ولقد كان قتال المجرمين في الداخل، صهاينة الفعال والأقوال، أولى، حتى يستطيعوا أن يتوجهوا نحو الخارج، ليستردوا ما ضيعتموه، وما كنتم عونا مع الزمان والجبان والطغيان على ضياعه.
والحقيقة أن أهل دمشق أقرب إلى القدس من كثيرين تاجروا باسميهما، وأن المعركة القادمة قادمة، لا محالة، وأنها جولات، فيها يَغلب الطغاة فيقهرنا الغزاة، ثم نطيح بالطغاة فيهلك الغزاة، ولست مراهنًا على “مخلوق” في الدنيا ولا يتمثل لي الحق في إنسان، وإنما هو إحسان الظن بجند الله وعباده، وثقتي المحدودة على اتساعها بالمخلوق، يغلبها يقين بلا حدود في وعد الخالق، وأنا مؤمن ومبايع الله على تلك الغلَبة في تلكم المعركة، وسيرى المجرمون أي منقلَب ينقلبون، وسيرى الاحتلال من ظنهم صيدا سهلا في دولتهم المنهكة، كيف يسومونه سوء العذاب، ويمرغون بكيانه المارق التراب، والأيام بيننا، فوفروا شماتتكم، وقد ولَّى زمان طغيانكم.
وإن كان مني لكم من نصح أمين، وخلاصة موجزة، وقول رشيد، في آخر تلك الحسرة الثقيلة، والعزيمة المقبلة، فهي كلمة يقولها الشوام وتعجبني، لتضع النقاط على الحروف بعد كل ذلك، فأقول لكم: “انطمّوا”.